الأربعاء، 29 أبريل 2020

عودة جالوت (الجزء 2)



مهدي حبشي


-          لن تجده بهذا السعر في أي مكان آخر، أبيعه فقط لأني في حاجة ماسة للمال...
قال البائع في محاولة لإقناع ذلك اللاجئ، الذي لا يبدو أنه تجاوز سن التاسعة عشرة، باقتناء الهاتف. ولم يبدُ أنه في حاجة للإقناع، اعتبرَ اللاجئ هاتفاً من ذلك الطراز غنيمة مقارنة بثمنه البخس. فأمده بالمبلغ المطلوب وعلى وجهه ابتسامة ساذجة، ثم استلم غنيمته كما يستلم رضيع ثدي والدته. أما أنا فكـأني كنتُ أشاهد تسجيلاً لما جرى لعمَّار، ولكل اللاجئين الذين ألقي عليهم القبض في الآونة الأخيرة رغم حسنِ سيرتهم.
كدتُ من فرط الغضب أنقض على ذلك البائع المشبوه وأوقف العملية، لكني تعقَّلتُ في آخر لحظة، حينَ أدركتُ أنَّه تصرفٌ لن يؤدي إلى نتيجة تذكر. فليسَ عندي دليل على أنَّها بالفعل عملية نصب واحتيال وتوريط للاجئ في أداة مسروقة. وقد أتسرَّعُ وينقلب الأمرُ عليّ. لذا قررتُ أن أثبت في مكاني منتظراً انفصالهما لأتعقَّبَ البائع، لعلي أصل لشيء يضيء لي القضية أكثر.
وكذلك كان، نهضتُ من مكاني ولاحقته خلسة بعدما ابتعد بعض الشيء، وتحقق مرتين من أنَّ أحداً ليس في أعقابه. الأمور تزداد غموضاً وإثارة بوتيرة سريعة، يكفي أنه لم يغادر المخيم عبر بوابته التي تحرسها (المفوضية السامية لشؤون اللاجئين) التابعة للأمم المتحدة، بل خرج عبر فجوة غربي المخيم لا يبدو أنَّ أحداً انتبه لها في السابق، بما في ذلك أنا الذي اكتشفتها أول مرة... خارج المخيم رأيته يتقدم نحو الحي المجاور ويتوغل ضمن أزقته. وظفتُ كل ما في ذهني من تقنيات التعقب، من ترك مسافة أمان إلى التخفي وسط التجمعات البشرية، مروراً بتصنع ملامح البراءة على وجهي. بينما لم يستدِر هو سوى مرتين فقط، اطمأن بعدهما لكونه في أمان.
التحق بمقهىً شعبي وألقى التحية على رجل أصلع مريب، فدخلتُ المقهى بدوري واتخذتُ مجلساً خلف طاولتهما كي يتسنى لي استراق السمع لما سيدور بينهما من حديث. استخرجتُ هاتفي وتظاهرت بأني مشغول به كي لا أحرك حولي الشكوك...
-         تمت العملية بنجاح سي عباس (قال البائع)
-         هل كان عربياً أم أفريقياً؟
-         أفريقي، لا يبدو أنَّ سنه تجاوز الثامنة عشرة كحد أقصى...
-         جيد، القاصرون صيد سهل، البالغون قد يشكون في شيء لذا ابتعد عنهم قدر الإمكان... صفه لي؟
-         الأفارقة يتشابهون سي عباس (قهقه بسخرية)، ولكن كان وجهه طويلاً وأنفه أفطس وله شعر قصير أشعث...
-         ماذا عن الجرذان؟
-         "كون هاني سي عباس"، أدخلنا عبرَ الفجوة سرباً آخر من 20 جرذاً قبل ليلتين، بينها إناث وذكور، سيتكاثرون بسرعة، إن هي إلا أيام حتى تصبح بالمئات... يقال إنَّ الجرذان وحدها خلصتنا من 7 لاجئين.
ابتلعتُ ريقي بعسر، بالكادِ صدقتُ أن تلك الجرذان التي صارت جيراننا في المخيم لم تنبت على الأرض، بل أقحمت علينا إقحاماً...
-         ممتاز..حسنٌ يمكنك الاحتفاظ بمبلغ المعاملة، وهاك هذا أيضاً... (زاده الرجل الأصلع مبلغاً آخر)
-         الله يخلف سي عباس، أنا في الخدمة في أي وقتٍ أردتني... (رسمت على محيا البائع ابتسامة خبيثة).
-         لا عليك... ولكن كن على أتم الاستعداد فمساء غدٍ ساعة الصفر و...
لم أكد أسمع المزيد حتى وقف النادل عندي يسألني عمَّا أرغبُ في شربه؟ فاجأني وبقيت مشدوهاً فيه لوهلة وفاتني بسببه سماعُ تفاصيل أكثر عن "ساعة الصفر". بعد برهة من الدهشة قلت للنادل "قهوة"، فانصرف من أمامي، وهناك وجدتُ الرجلين يسلمان على بعضها البعض بينما يستعد البائع للانصراف.
تباً، فاتني الشطر الأهم من الحديث.. كنتُ لا أزال مصدوماً وعاجزاً عن تحديد ما عليَّ فعله الآن... أمنحُ خِصيتي مقابل معرفة من يكون هؤلاء وماذا بينهم وبين اللاجئين، حتى يتآمروا عليهم بهذا الوجه الشنيع؟ عبرتني رعشة باردة وأنا أستحضر عبارة "ساعة الصفر"، التي تفوه بها الرجل، والتي حددها في الغدِ بينما أنا عاجز عن إدراك قصده بها. إذا كانَ توريط اللاجئين في جرائم هم براء منها، وقتلهم بالجرذان مجرد أحداث عادية، فكيف تكون "ساعة الصفر"؟ أخرجني من تفكيري قيام الرجل الأصلع من مكانه، ودفعه ثمن قهوته ليهم بالانصراف بدوره، فانتظرت ثواني عدة ثم تبعته غير آبه بالنادل، الذي ناداني وقد جاء بقهوتي.
لاحقتُ الأصلع إلى الشارع المجاور، وشاهدته يركبُ سيارة فارهة. وبينما يدفع ثمن الحراسة للـ"غارديان"، استلمتُ أول سيارة أجرة لاحت لي وأمرتها بملاحقته... وأثناء الملاحقة نظرتُ مراراً وتكراراً للعدَّاد وأنا أتوسل إلى الله ألا يتجاوز ثمن الرحلة 10 دراهم، التي منحني إياها صاحب مقهى الأندلس، فهي كل ما يتوفر في جيبي. أثناء المطاردة أخرجتُ هاتفي المهترئ وصورتُ الرقم التسلسلي للسيارة، صورة رديئة لكنها تفي بالغرض... ولحسن حظي كانت المسافة التي قطعها الرجل قصيرة لم يتجاوز سعرها 8 دراهم. أديتُ الثمن للسائق، واستغليت اختبائي داخل السيارة لأصور الرجل الأصلع صورتين. ثم غادرتُها وكلي أملٌ في أن يلتقي شخصاً آخر تمكنني محادثتهما من فهم تفاصيل إضافية عمَّا يُدبِّر...
لم يعد بوسعي مطاردته مسافة أخرى للأسف، حينَ رأيتهُ يدخُل مبنى محروساً من عدة طوابق. مبنىً مهيب، وينتصبُ في قمته شعارٌ برتقالي اللون كُتِب عليه بحروف عربية وأعجمية "الفجر El Fajr". قمتُ بتصويره..
عُدتُ أدراجي خائباً، كل ما أعرفه أنَّ أحدهم يكرهنا ويكيد لنا، وأنه يُجهز لنا في الغد جحيماً أجهلُ طبيعته. واقتنعتُ بأنَّ عمار والآخرين هم ضحايا شخصٍ وضيع يكره اللاجئين لسبب مجهول. لم يعد في جيبي سوى درهمان، فلم أتمكن من أخذ سيارة أجرة، عدتُ للمخيم حافيَ القدمين، فانتابني إرهاق شديد لدى وصولي. كانت أمي وأخي يغطان في نومٍ عميق، استلقيتُ على لحافي، فانتابتني مرة أخرى الرغبة في قراءة ذلك المقال الذي يشيطن اللاجئين. رغبتُ في الضحك غباء ذلك الصحفي الذي كتبه، وهو لا يعرفُ شيئاً عن غورِ ما يجري... تصفحتُ الجريدة بحثاً عن الصفحة التي تحتوي المقال، إلى أن صُعِقتُ بمشهدٍ هزَّ كياني.
على بُعدِ صفحتين من المقال، كانَت صفحة تحتوي بالكامل على صورةٍ طبقَ الأصل عن ذلك الشعار الذي شاهدته يعتلي المبنى الذي دخلَ إليه الرجل الأصلع. كان عبارة عن إعلانٍ لفائدة شركة "الفجر". وهي شركة عقارية. أخرجتُ هاتفي كالمهووس وقارنت الصورتين. فعلا، نسخة طبقَ الأصل ! ولأني أفقه جيداً في شؤون الصحافة، فقد أدركتُ أنَّ إشهاراً بذلك الحجم يساوي ثروة حقيقية... وأنَّه في الغالب يكونُ بمثابة رشوة من الجهة المُعلِنة للصحيفة... مُقابل التأثير في خطها التحريري !
جحظت عيناي وأنا أربطُ الخيوط ببعضها البعض، لعل ذلك المقال غيرُ بريء.. لعله أكثر من مجرد سذاجة صحفية... لعله المقابل الذي تشترطه شركة "الفجر"، لمنح الصحيفة إتاوة الإشهار ! بل لا شك في أنَّ الركوب على الإعلام لتأليب الرأي العام ضد اللاجئين، جزءٌ من المؤامرة الأخطبوطية التي تقودها "الفجر" ضد اللاجئين !
"ولكن ماذا بين شركة عقارية واللاجئين، حتى تكرههم وتكيد لهم على هذا النحو الشيطاني؟" تساءلت في خلدي، وبعدَ تفكير لا يوصف حتى بالعميق، خطرت ببالي فكرة... لكني لم أرغب في إطلاق الاتهامات على عواهنها.  قمتُ من مرقدي وتوجهتُ بخطى حثيثة صوبَ كوخ رُبا، وجدتُ المسكينة غارقة في أحلامها، فعلت بها الحبة المخدرة فعلتها. قبلتُ جبينها وأخذتُ من جيب معطفها خمسة دراهم... وركضتُ صوبَ أقرب بقال، عبَّأتُ عنده هاتفي بالأنترنت، وعدتُ بسرعة للخيمة لأشرع في بحوثي...
كتبتُ على محرك البحث غوغل "شركة الفجر"، المقالات الأولى التي عثرت عليها كانت محايدة، تسرد معلوماتٍ عادية عن الشركة، رقم معاملاتها الفلكي الذي يجعلها أضخم شركة عقارية في هذه البلاد.  واهتمامها في الآونة الأخيرة بالعقار الفاخر... لكن ما إن تعمَّقتُ في البحث حتى عثرتُ على مقالاتٍ تنتقد الشركة، وكان أبرزها ذلك الذي توَّج شكوكي: "شركة (الفجر) تستفيد من الريع الاقتصادي. تستحوذ على أراضٍ عمومية بأثمنة رمزية، وتشيد عليها فيلات وعمارات تباع بملايير الدراهم".  كتبت بعدها على غوغل "أفريقيا"، وأخذتُ أقرأ المقالات التي كتبت عن هذه الأرض التي أقيمَ عليها المخيم، خصوصاً خلال السنوات القليلة التي سبقت إنشاءه... وكما توقعتُ، تتحدث مقالاتٌ عديدة عن رغبة شركة الفجر في الاستحواذ عليه وإنشاء مجمَّعٍ سكني ضخم فوق أرضه... شساعته وموقعه داخل المدينة، يجعلانه كنزاً حقيقياً لأي شركة تملكه.
اصطكت أنيابي ببعضها غيضاً، بينما تفقدُ الصورة ضبابيتها في ذهني، ويتضح لي بما لا يترك مجالاً للشك أنَّ كل المآسي التي يشهدها هذا المخيم من هندسة شركة الفجر. لا لشيء إلا لكونها ترغب في طرد اللاجئين منه والاستحواذ عليه. لم يغمض لي جفنٌ طوال الليل، بتُّ أقلب الأمر في ذهني مفكراً في ما سأفعله لأفضح هذه المؤامرة... قررتُ أن أذهبَ للشرطة في الغد وأحدثهم عن الأمر وأحرِّرَ عمَّار المظلوم من قبضتهم... لم أستسلم للنوم إلا ببزوغ الفجر، وبعدها بساعاتٍ استيقظتُ وقد طلع الصبَّاح. حتى دون إلقاء التحية على والدتي، تركت الخيمة وتوجهت لكوخ ربا كي أطمئن عليها، وأؤكد لها أني سأحرر عمَّار قريباً بفضل ما توصلت له من معلومات...
فتحتُ باب الكوخ لأفاجأ بها تبكي فرحة وهي تعانق أخاها، لقد أطلقوا سراحه ! ارتميتُ على عمار بدوري وعانقته، "إنها معجزة..." قلت، فسكت عمار قليلاً ثم قال بنبرة بائسة: "تبينت لهم براءتي".. شيء عصي على التصديق، هذه أول مرة يعود فيها أحدهم من مخفر الشرطة دون أن يقضي فترة سجنية، أو يتم ترحيله من البلاد حتى. "كيف حدث هذا؟" سألته.. فلم ينطق بكلمة، ثم نابت عنه رُبا: "يكفي يا عِز، دعه يرتح الآن، فلنحمد الله على سلامته فحسب".
عُدتُ لخيمتي ببعض التفاؤل الذي زرعته فيَّ عودة عمَّار، لكني ما زلتُ حائراً في كيفية إثبات إفاداتي للشرطة، فليس في حوزتي دليل ملموس على ما أعرفه... والأكثر من ذلك أني مرتبك لكون مساء اليوم هو "ساعة الصفر" التي حددها الأصلع، دون أن أعرفَ ما يضمره من شر...؟ قضيتُ اليوم على الأنترنت أبحث عن تفاصيل أخرى قد تساعدني في الإطاحة بالشركة، كنتُ أضحك من نفسي بين الفينة والأخرى، كيف للاجئ بائس مثلي أن يسقط شركة بذلك الحجم؟ ولكن الكتاب المقدس يحكي لنا عن قصة النبي داود، الذي كان صغيرَ الحجم ومع ذلك نجح في إسقاط الوحش جالوت، الذي يفوقه عتاداً وحجماً.
حلَّ المساء، هبَّ اللاجئون إلى ديارهم، وتفاقم قلقي، فكرت في أن أي شيء سيقترفه أولئك المجرمون سيمر عبر تلك الثغرة التي يتسربون منها إلينا، فقررت أن أحرسها متخفياً الليلة. وأنظر في أمر أي تحرك مشبوه لعلي أكتشف ما يخططون له. وكذلك كان، جلستُ نحو ساعة أمام الثغرة دون أن يحدث شيء، إلى أن لاح لي طيفُ رجل يقترب منها من الخارج، فصرتُ على أهبة الاستعداد... لكن الرجل لم يدخل، بل وقف عند الثغرة دقائق وهو ينظر لساعته اليدوية من حين لآخر، حتى أقبل عليه أحدهم من داخل المخيَّم. ركزتُ بصري عليهما، لم يتبادلا أي كلمة كأن بينهما اتفاقاً مسبقاً، سلمه رجل الخارج خابيتين بلاستيكيتين وشيئاً آخر أصغر حجماً عجزتُ عن تحديد طبيعته... ثم انسحبَ إلى حال سبيله بينما توغل المستلِم داخل المخيم. كان ملثماً ما أعجزني عن تحديد هويته، كما لم أستطع في البداية معرفة ما ينوي فعله. طاردته إلى أن توقف عندَ خيمة وأخذ يسكب سائلاً من تلك الخابية، سرعان ما تناهت رائحته لأنفي فعبرتني رعشة باردة وبلعت ريقي بعسر... بنزين ! أينوي هذا المجنون حرق المخيم؟
بالفعل، انتهى من سكب السائل ثم استخرج من جيبه ولاعة، وفي اللحظة التي كان سيلهب المخيم وثبتُ عليه كالسبع على الفريسة فطرحته أرضاً، ثم وجهتُ له لكمة فولاذية.
-         من أنت أيها السافل؟ لما تفعل هذا؟ أنتَ لاجئ بلا شك.. وإلا كيف جئتَ من الداخل؟
لم أمهله فرصة الرد، وأزحتُ لثامه... لأجد نفسي أمام صدمة العمر.
-         عمار؟؟؟؟؟ ك... كيف؟ ولماذا يا أخي؟
لم يستطع عمَّار النظر في عيني، وصمتَ خجلاً لمدة طويلة، قبل أن أصفعه مطالباً إياه بتفسير... "تكلم يا عمار، تكلم وإلا صحتُ حتى استيقظ الجميع ورأوا ما كنت ست عله... لماذا تفعل شيئاً كهذا؟ لماذا ترغبُ في حرق وطنك؟
-         أي وطنٍ هذا؟ هذه زريبة لا تليق حتى بالخنازير... (قال بنبرة وملامح حادة).
-         ولكنها زريبتك، مسكنك الوحيد، من دونها مصيرك هو التشرد.. لماذا تتواطأ مع أعدائها؟
جرى الدمعُ نهراً من عيون عمَّار وهو يحكي لي ما حدث مساء الأمسِ في مخفر الشرطة.. اختلى بهِ زائرٌ لم يحدد هويته في زنزانته وقال له:
"إسمع يا عمَّار ، أنا شخصٌ أساعد اللاجئين وأريد مساعدتك. ولكن كل الأدلة ضدك، أنت المتهم الوحيد في سرقة الهاتف. الأسوء أن السرقة تمت في جنح الظلام وتحت التهديد بالسلاح الأبيض، ما يعني أن تهمتك ثقيلة جداً. لا أحد سيهتم بادعاءاتك حول شرائك الهاتف من أحدهم ما دمتُ عاجزاً حتى عن وصفه للشرطة... أخطأتَ بشراء هاتف من جهة لا يمكنك إثبات وجودها، رغم أني أصدقك وأعلم أنك لم تسرقه، ولكن القانون في هذا البلد لا يحمي المغفلين... (سكت المفاوض برهة ثم زاد) لكن بإمكاني مساعدتك مقابل خدمة بسيطة جداً. أمامك حلان اثنان: إما أن تقبل عرضي، وسأتكلف بنفسي بجعل صاحبة الهاتف تنفي للشرطة أن مواصفات السارق تنطبق عليك، وستغدو حراً منذ الغد... وإما أن ترفض وسوف يرفعون محضرك للمحاكمة. وحينها لن يبقى بوسع أحدٍ مساعدتك، فما رأيك؟ ثم هنالك شيء آخر... إذا قبلت العرض، ونفذت ما سأطلبه منك، فسنضمن لك ولأختك مسكناً لدى إقامات (الفجر)... السكن الاقتصادي لديهم أفضل بكثير على كل حال من ذلك المخيم القذر وأكواخه المقززة. أما إذا رفضت... فأختك ستزور السجن أيضاً. نحن نعرف أنها تمارس البغاء، وهذه جنحة خطيرة قد تؤدي حتى إلى ترحيلكما من البلد... ولا أظن في مصلحتك العودة لسوريا لتلقى قنابل جبهة النصرة والأمريكان والروس".
بكيتُ وأنا أسمع قصته، ثمَّ زمجرتُ في وجهه: "أمثالك هم الذين ضيعوا سوريا، وضيعوا العراق قبلها وفلسطين... وسيضيعون المغرب والجزائر... ".
-         فليذهبوا جميعاً للجحيم، ماذا أعطاني المخيم البائس غير الشقاء كي أشفق عليه؟
-         جعلك بين أهلك أيها المغفل، حينَ ستذهبُ للعيش في إقامات الفجر، ستسكن في بيت جيد وسط جيرانٍ لن ينظروا إليك إلا كلاجئ حقير، غريب من أولئك اللصوص وقطاع الطرق... لن ينظروا إليك أبداً كواحدٍ منهم. أنا أعرف أن حياة المخيم أقبح من أن تُحتمل، ولكن علينا أن نتحد لنبنيه ونحسن ظروفه سوية، لا أن نبيعه للأعداء. ماذا لو قضت رُبا في الحريق قبل أن تتمكن من انتشالها من الكوخ للإقامة؟ ألم تفكر في ذلك؟ كيف ستعيش حياتك بعدها وصورة أختك تلتهب تسكنك إلى آخر رمق في حياتك؟
هوت الدموع شلالاً من مقلة عمَّار، ثم عانقني وقد زاد بكاؤه حرقة، كما لو أن ضمير صحا من سُكره...
في اليوم التالي أخذتُ عمَّار وتوجهنا للكوميسارية كما يسميها المغاربة، فعمَّار بنفسه صار دليلي الذي كنت أبحث عنه لإدانة الشركة اللعينة. اتفقنا على أن يفضح كل شيء... وحينَ وصلنا إليها، وجدناها تخضع للصيانة، وقد أحاط بها سياجٌ حديدي كتب عليه: "مشروع تهيئة وتوسيع الكوميسارية من إنجاز شركة (الفجر)".


السبت، 25 أبريل 2020

عودة جالوت (قصة قصيرة) ج1



مهدي حبشي


"تركتهم يأخذونه، أينَ كنت يا ابنَ العاهرة؟ أهذه هي الحماية التي تعهَّدتَ بتوفيرها لي؟".
كانت رُبا تبكي ملء قهرها وهي تضرب على صدري وتعانقني بعزاء في الوقت نفسه، لم أدرك إن كان تصرفها عدوانياً أم مقهوراً؟ اكتفيتُ باحتضانها وأنا عاجزٌ عن فهم ما حدث، فقد كُنتُ في الخارج وعدتُ للمُخيَّمِ للتو.
أدعى "عز العرب"، عمري 28 سنة، لاجئ سوري من أصول فلسطينية في المغرب... ثلاثية عجائبية أليسَ كذلك؟ فررتُ من الحرب في بلادي، التي فرَّ إليها جدي من الحرب أيضاً،  لأجدَ نفسي وسطَ حربٍ أخرى ما زالت أوزارها تشتد عليَّ يوماً بعدَ آخر. كنتُ أظن هذا المخيَّمَ، الذي أنشأتهُ السلطات المغربية للاجئين أخيراً، بعدما تزايدت أعدادنا على نحوٍ مخيف بين عربٍ سوريين وأفارقة من جنوب الصحراء. حسبناه سيُخرجنا على الأقل من جحيم التشرُّد والتيه، الذي قاسيناه منذ وصولنا إلى المغرب قبل عام تقريباً... لكنه للأسف صار أكثر جحيمية من حفرة إبليس...
خرجتُ اليوم كعادتي كلَّ صباح بحثاً عن عمل أعيلُ به أسرتي، نحن أربعة أشخاص، أو بالأحرى كنا. خرجنا من سوريا إبان قصف حي بابا عمر في حمص، وقطعنا أشواطاً من سوريا إلى ليبيا فالجزائر، وهناك صرنا ثلاثة فقط، حينَ لسعَ عقربٌ أخي الأصغر ذي الثلاثة عشرة ربيعاً ونحن نتسلل عبرَ الحدود المغربية-الجزائرية. قبقيتُ مع وأمي وأخي الأوسط ذي الثماني عشرة عاما. أما والدي فهو سبب خروجنا من سوريا، حينَ رأيناه يستحيل إلى قطعة فحم، بعدما هوى صاروخ فوق رأسه. أدركنا حينها أنَّ شعرة معاوية قد قطعت بيننا وبين الوطن.
اقتنعتُ بأن البحث عن عملٍ آخر حلٍ أمامي، بعدما اتضح لي أن حلم الهجرة السرية إلى إسبانيا، الذي جاء بنا للمغرب أساساً، ليس سهل المنال ولا مضموناً. فعرضتُ نفسي على المطاعم والمحلات التجارية والمقاهي... لكنَّ أحداً لم يقبلني، حتى صاحب مقهى "الأندلس" في ساحة السراغنة وسط الدار البيضاء، والذي بدا لي طيباً ويحتاج نادلاً بالفعل، تراجع عن تشغيلي في آخر لحظة حينَ دقَّقَ في لهجتي وفهم أني لاجئ: "يا ولدي والله ما كرهت ليك، تبدو شاباً مهذباً وخلوقاً، ولكن بالله أجبني، هل تعرف نوار فالطاس ولا فالكاس؟ هل تعرف نص نص؟ هل تفقه معنى (أرا الكود ديال الويفي؟)، (دير لينا ماتش الكوكاب؟)"... بقيتُ مشدوها لأني لم أستوعب أياً من عباراته... فأردف "أرأيت؟ كيف ستتعامل مع الزبائن بهذه الإعاقة اللغوية؟"، "بوسعي التعلم (أجبت) فأنا أتعلم بسرعة"، "يا أخي، أنا في حاجة لنادلٍ جاهز منذ اللحظة الأولى، أعذرني...". في الواقع كان من بينِ قلة لم أشعر بالضغينة تجاههم، لأنه كلف نفسه عناء التواصل وشرح موقفه على الأقل، ولم يتركني أرحل قبل أن يضع بينَ يديَّ 10 دراهم، وبعض الدعواتِ شفقة وتعاطفاً.
بعدَ يومٍ مُضنٍ من التجوُّلِ بلا جدوى عُدتُ يائساً أجرُّ أذيال خيبتي، لكنَّ القسم الأسوء من اليوم كان في انتظاري. أمام بوابة المخيم لاح لي مجدداً ذلك المشهد الروتيني الذي يكاد يحدث مرة كل أسبوع على الأقل. تجمهر سكانُ "حي أفريقيا"، المجاور للمخيم، الذي كان قبل اللاجئين سوقاً لبيع الغنم. تجمهروا أمام مدخل المخيم وهم يصفقون ويصيحون بحبور، والنساء يزغردن، احتفاءً بالحدث البطولي: رجال الشرطة يقتادون لاجئاً جراً من ياقة قميصه كالخروف، أولم أقل إنه سوق غنم؟ تلافيتُ النظر إلى اللاجئ الملعون، فالمشهد صار يستفزني في كل مرة يحدث. وحينَ هممتُ بدخول المخيَّم نلتُ حصتي اليومية من نظراتِ الازدراء وعبارات الاحتقار من سكَّانِ ذلك الحي، وتمنيتُ في قرارة نفسي لو أفعلُ ذلك الشيء الذي جعلهم يكرهونني دونَ أن أفعله.
صعقت أنفي رائحة النتن وأنا أعبرُ الخيام مروراً "بالحي البرجوازي"، وهو قسمٌ من المخيم توجد به أكواخٌ من الخشب والقصدير، يسكنها (النبلاء) و"المترفون" من اللاجئين. أما أنا فكنتُ من (الطبقة المسحوقة)، التي تعيش في خيمة. في طريقي لخيمتي كنتُ أنظرُ إلى الأسفل مخافة أن يباغتني جرذ سمين بعضة مميتة، جرذان هذا المكان بحجم القطط وعضاتها قتلت ما لا يقل عن خمسة لاجئين حتى الآن.
وصلتُ لخيمتي منهكاً، واستلقيتُ على لحافي حتى دون أن ألقي أيَّ تحية على أمي، فأدركتُ أنها أدرَكَت أني فشلت مجدداً في العثور على شيء، وكان الأمرُ يخجلني حتى عن التفوه بالتحية. فأنا أرى نفسي مسؤولاً عن الأسرة، بعد رحيل أبي وتقدم أمي في العمر وبسبب صغر سن أخي. حدقتُ بعينين مرهقتين في الطاولة الخشبية الصغيرة التي تتوسط الخيمة، يعتليها مصباح يعمل بالغاز، وقارورة مياه بلاستيكية متدهورة الحال مع بعضِ الأواني. وعليها كانت أيضاً تلكَ الجريدة. سحبتها إليَّ وشرعت في النظر إليها رغم أني قرأتها سبعين ألف مرة في السابق، خصوصاً ذلك المقال الذي بقدر ما كان يستفزني، صرتُ الآن أستلذ إعادة قراءته ولو من باب السخرية من محتواه.. أو لعلي شرعت في تطوير بعض المازوشية.
 "اللاجئون ينثرون الرعب بين سكان حي أفريقيا". رسمت على مُحيَّاي ابتسامة ساخرة ككل مرة أقرأ فيها هذا العنوان، الذي يسرد منذ فقرته الأولى تفاصيل جرائم شنيعة اقترفها لاجئون؛ تحرش واغتصاب وقطع طرق ليلاً وانتشال حقائب يدوية... وهي جرائمُ لم يكن يشتكي منها السُكَّانُ قبل أن ينبت المُخيَّمُ على أرضِ "سوق أفريقيا"، يدَّعي صاحب المقال.
ولأني ويا لسخرية القدر، كنتُ أدرسُ الصحافة في سوريا قبل أن تنفجر الأوضاع هناك، كان من السهل عليَّ أن أشتم رائحة التحامل التي فاحت من المقال. إذ لم يكلف الصحفي نفسه عناء التحقق من صِدقية رِوايات "المُتضررين"، أو على الأقل ضمان توازن تقريره عبر فسح المجال للاجئين للدفاع عن أنفسهم. حُرِّرَ المقال بمقاربة تعميمية تضع كل اللاجئين في سلة واحدة: لصوص ومُغتصبون وقطاع طرق... بل نسيَ الصَحفي لوهلة مُهمته نقل الوقائع بموضوعية، وما يترتب عنها أخلاقياً من واجب أخذ مسافة متساوية من طرفي النزاع، ليتحول في منتصفِ المقال إلى مُحامٍ وصوتٍ من بين الأصوات المشتكية من اللاجئين. بدا كأنه يحملهم مَسؤولية فتح "صندوق باندورا" وملء العالم بكل الشرور. حتى لغة تصريحات المتضررين المنددة بـ"جرائم اللاجئين" كانت نخبوية، يصعب تخيل صدورها عن مواطنٍ عادي، كأن المُحرِّرَ اختلقها خلقاً من وحي خياله ونسبَها لمواطنين مجهولين، لم يذكر سوى الحروف الأولى من أسمائهم. كُنتُ أتساءل بمكري الصحفي عما إذا كان الرأي العام الغاضب من اللاجئين قد خلق تلك المادة الصحفية.. أم أن المادة الصحفية هي التي خلقت الرأي العام الغاضب منا، والذي لاحظته عندَ مدخل الحي؟
بفضل هذه الجريدة اليسارية ذات المبادئ الكونية، والتي يكادُ لا يخلو عددٌ منها من مقالٍ عن اللاجئين، صار  روتينياً سماعُ سيارات الشرطة كالصقور تحوم حول المخيم، ورؤية أحدِنا يُفترسُ ويُقتاد جراً كالكلب إلى مخفر الشرطة، تحت زغاريد وصيحات سكان الحي المجاور السعيدة بتخليصهم من مجرمٍ أو مشروع مجرم. أرجعتُ تلكَ الجريدة باحترامٍ إلى الطاولة، ولعي بالصحافة يمنعني من حرقِ جريدة أو معاملتها بقلة أدبٍ رغم محتواها الذي حوَّلني من صحفي إلى مجرم. استخرجتُ هاتفي المهترئ سامسونغ J1 الذي ما عادَ يصلح لشيء عدا "قول ألو" على حد تعبير المغاربة، أو مراقبة الساعة في أفضل الأحوال، كانت تشير إلى السابعة والنصف مساءً... حينَ نطقت والدتي بنبرة توحي بأنها استحضرت الأمر للتو.
"عِز، أتعلمُ أنَّهم قبضوا على عمَّار قبل قليل؟". قُمتُ دفعة واحدة وقد جحظت عيوني ذهولاً، لم تترك لي أمي فرصة التعقيب وواصلت: "وجدوا في حوزته هاتفاً مسروقاً...". "يستحيلُ أن يفعلها عمَّار (قلت)". ودون إضافة كلمة خرجتُ أركض كالأهبل صوبَ خيمة رُبا، حيثُ تعيش برفقة أخيها عمَّار منذ استوطنوا المُخيم. ما زلتُ عاجزاً عن تصديق الأمر، عمار فتى مهذب ونبيل، يستحيل أن يسرق! كانت أول مرة يُقبض فيها على شخصٍ أعرفه، وهذا يؤكد كلَّ الشائعات التي ما فتئت تدَّعي أنَّ كل المقبوض عليهم مظلومون، وأنَّهُ من الغامض والمثير أن تعثر الشرطة بالفعل على أدواتٍ مسروقة في حوزتهم كل مرة...
دخلتُ على رُبا، وجدتُها وحيدة تنوح كالثكلى، رمقتني بنظرة احتقار وبصقت عليَّ، وقالت إنني ابنُ عاهرة، لأني لم أفي بوعدي بحمايتها من كلِّ مكروه... وحين اقتربتُ منها ضربتني وعضتني وغرزت مخالبها في عنقي، بينما اكتفيتُ باحتضانها والصبر على عقوبتي لأني نذل يخلف عهوده...
رُبا شابة من ريف دمشق، لكنني لم أتعرف عليها إلا في المغرب. حتى أني أحياناً أحمدُ الله على هذا المصاب الذي كان سبباً في لقائي بتلك القشدة الطرية. تبلغ من العمر 21 عاماً، وتعيش مع أخيها عمار ذي 16 سنة.  في العادة رُبا فتاة هادئة كأنغام موسيقى الجاز، أذكرُ يومَ عرفتها، كانت تسكن في خيمة قريبة قبل أن تنتقل للعيش في كوخ...
رغم أوضاعنا المأساوية، كانت رُبا تتجلى لي أنيقة وبهية، بشعرها الميَّالِ للشقرة وعينيها العسليتين، وجسدها الممشوق كأنه منحوتة "فينوس دي ميلو" لإلهة الإغريق أفروديت.  في البداية كنتُ أحب أن أقضي جزءً من يومي أراقبها عن بعد، أشعل سيجارتي وأتطلعُّ إليها تنشر الغسيل وهي تجمجم كلماتٍ من أغنية "سنرجع يوماً" لفيروز. أتفرَّجُ على طيزها وهو يتمدد برشاقة كما يتمدد ذراعاها نحو حبل الغسيل. وكانت تلك اللحظات تصرف عني بعض الضغط العصبي.. مضت أيامٌ وأنا أفعل هذا دون أن أتقدَّمَ نحوها بخطوة أو أتفوه بكلمة، وحينَ أشاهدها تقتادني مُخيلتي إلى عوالم موازية. حيث أنا وبعد تخرجي من معهد الصحافة واشتغالي في كبرى جرائد سورية، أتقدَّمُ لخطبة رُبا من أسرتها... ثم يصفعني نفاذ سيجارتي فأفيق على الواقع المر، وأسمعه يصرخ في وجهي: "إنَّ شخصاً في وضعك عليه أن يستحيي حتى من مجرد التفكير في الحب أو الزواج..." كان ذلك اعتقادي إلى أن حلَّ يوم مشهود.
رغم أني كنتُ آخذ احتياطاتي كي لا تشك في أني أراقبها، كان لدي انطباعٌ بأن رُبا تعرفُ كل شيء، بل أنها صارت تتعمد نشر الغسيل بشكل يومي... وبعدَ أيامٍ من إدارة الظهر لي استدارت نحوي على حين غرة، حتى بُغِتُّ بالتقاء ناظرينا، فأطلقَت الحسناءُ ضِحكة ساخرة، أما أنا فحنيت بصري خجلاً حتى سمعتها تستفسرني: "هل أكلت؟"، هززتُ رأسي نافياً ومشدوهاً، فأومأت برأسها تدعوني للحاق بها إلى داخل الخيمة.
-          إسمه الطاجين.. (قالت وهي تنظر إلى ذلك القِدر الذي يحتوي بعض البطاطا والجزر وقليلاً من اللحم) وجبة مغربية، أنتَ محظوظ، اغتنم الفرصة فهذه من المرَّات النادرة التي أحصل فيها على ما يكفي من المال لإعداده.
دعتني لمشاركتها الوجبة على أن نترك لعمَّار حصته حين يعود، ولا أدري إن كان الطاجين المغربي لذيذاً بالفعل أم أن لذة الحديث مع رُبا طغت على طعمه في كياني... روى كل منا قصته للآخر ووجدنا في حكايتينا الكثير من المفارقات والتقاطعات. وبمضي الأيام صار قضاء ساعة أو أكثر من الحديث معها طقساً يومياً. نمت العواطف، حتى أنَّها صارت لا تتحرَّجُ من منحي نقوداً لشراء السجائر، أو دعوتي لمشاركتها وأخيها الغداء يومياً، وحينَ انتقلت من الخيمة للكوخ، نمت شكوكي بشأن مصدر المال الذي خوَّلَ لها تحقيق هذا الارتقاء الاجتماعي؟
لاحظت أنها لا تقضي الليلة في الكوخ بينَ الفينة والأخرى، وتعقبتها ذات يومٍ فضولاً لمعرفة أين تذهب، وحينَ رأيتها تركب سيارة بعد أن تبادلت كلماتٍ مع صاحبها، ضربتُ جمجمتي وأنا أقول: "يا لك من غبي يا عِز". من الطبيعي أنَّ فتاة بكل ذلك الحُسنِ وبتلك اللكنة الشامية التي يعشقُ المغاربة سماعها على لسان النساء... لن يصعب عليها جني المال طالما بوسعها امتهان أقدم حرفة في التاريخ.
ساءني الأمرُ كثيراً، وكنتُ أنوي توبيخها حين ترجع، بل لعلي كنتُ صفعتها لو أنها بالقرب مني الآن. لكني التقطتُ وعيي بعد شرب سيجارة واحدة أذهبت فورة الغضب، ففكرتُ في نجواي: "من أنتَ أصلاً لتوبِّخها أو تفرض عليها وجودك؟ القحبة الوحيدة في هذه القصة هي أنت، أما رُبا فتجود عليك من مالها، ورغم أنها ذاقت من القضبان ما ذاقت فهي لا تبخل عليك بعواطفها... بوسعكَ أن تمارس عليها ذكوريتك حينَ تقدر على أن توفر لها عشاء ليلة على الأقل". فقررتُ أن أغض الطرف ولا أقول شيئاً، وعجزتُ حتى عن احتقارها أو إيقاف تدفُّق عواطفي تجاهها... في هذا الواقع المشؤوم، يصبح الحب الأفلاطوني خيارك الوحيد، أن تحب روح الآخر وتنأى بنفسك عن الانشغال بأعضائه التناسلية.
في اليوم التالي حينَ عادت للمخيم، كانَ منتهى ما استطعتُ قوله لها: "رُبا... صدقيني سأحميك من كل مكروه ولن أتخلى عنك أبداً". فوجئَت بقولي وكأنها فهمت ما وراءه، فانقضت عليَّ وقبَّلتني ثم قالت: "وأنا أحبك أنت".
هدَّأتُ روع رُبا بعسر، وساعدتها على الاستلقاء. طلبت مني سحبَ علبة دواء من جيب معطفها المعلق عند مدخل الكوخ، يتعلق الأمر بمنوم تحتاجه للاسترخاء حين تنفلتُ أعصابها. حينَ توجهتُ إلى المعطف عثرت على علبتين، كنتُ سأستفسرها عن المطلوبة بينهما، لولا أني انتبهتُ في آخر لحظة إلى أن العلبة الأخرى تحتوي حبوب منعِ الحمل. أشربتها الدواء، وغطيتُ جسدها وأنا أقول: "ارتاحي فقط، أعدكُ أني سأعيد لك عمَّار...". وعدٌ آخر سخيف لا أدري بأي جاه ولا نفوذ سأتمكن من تحقيقه... قبَّلتُ رأسها وانسحبتُ من الكوخ وقد اغرورقت عيناي دمعاً من حياتي المقززة. وما كدتُ أوقد فتيل سيجارتي حتى شعرتُ برغبة مُلحة في التبول، فتوجهت إلى الخلاء التي يتخذها اللاجئون مراحيض في غياب أي شبكة صرفٍ صحي...
كعادتي حينَ أرغب في قضاء نداء الطبيعة، أنسحبُ إلى زاوية معتمة خلفَ جدارٍ مهترئ. وبينما كنتُ أفرغ مثانتي من سمومها سمعتُ بالقربِ مني وشوشة غريبة... كانَ شخصانِ يتحدثان غيرَ بعيدٍ عني، لم أهتم في بادئ الأمر حتى شدني التباين الواضح في لهجتيهما، كان الأول يتحدث فرنسية بلكنة مغربية والآخرُ بلكنة أفريقية، فأخذت أسترق إليهما السمع. كانت فرنسيتي ضعيفة ولم تسعفني لأفقه أكثر من كلمات واضحة من قبيل "آيفون"، "ديرهام"... ومن خلال نبرة وسيرورة الحديث تبيَّنَ لي أن الأمر يتعلق بمفاوضاتِ بيع وشراء... اختلستُ إليهما النظر دون أن ينتبها إليَّ مستفيداً من الظلمة، هناك رأيتُ اللاجئ يستلمُ من البائع جهاز أيفون من طراز متقدم جداً بثمن بخس... 500 درهم !
وحينَ وقعت عيني على نظارات البائعة السوداء المريبة وقفازيه، هوت على رأسي كالصاعقة شائعات المخيم: "الغريب أن الشرطة تكتشف بالفعل تلك الأجهزة المسروقة في المخيَّم"... فتناهت إلى أنفي رائحة قذرة تفوح من كلِّ هذا...
يُتبع...

الاثنين، 20 أبريل 2020

الأرقام المُبهمة

Jasper Johns - Grey Numbers


كان المكان مظلما،
استرد الرجل وعيه، فوجد نفسه عاجزا عن الرؤية. تحسس أطرافه وتفقد جيب سرواله. لم يجد ولاعته، لم يكن هناك سوى علبة السجائر المنكمشة وقطعة ورق خشنة. كانت تبدو على الوريقة أرقام ما، لكنه لم يستطع قراءتها من شدة العتمة. سند طوله ووقف. كان السقف محاديا لرأسه. تحسس ملمسه الصلب، بدا كنوع من الفولاذ المصقول والمطلي بدقة. فرد ذراعيه ولامس بهما نفس المعدن مرة أخرى. كيف وصل إلى هنا ؟ حرّض ذاكرته على التذكر دون جدوى...
صرخ الرجل بأعلى صوته دون أن يرد عليه أحد. ضرب المعدن بقوة دون أن يتغير شيء. جلس أرضا منتظرا جوابا ما وسط الظلام والصمت. تبادرت إلى ذهنه كل التفاسير والأسئلة، لكنه لم يستطع الوصول لأي شيء. فكر أنه يعيش حلما، أو أنه محتجز في مكان ما. ظن أن هذه مزحة ثقيلة من أحدهم وأنه يراقبه الآن. نفث الرجل أنفاسه الساخنة في الفراغ وتنهد، ثم نطق قائلا:
 هل يكون هذا هو الموت؟ ولما لا؟ يقال عنه أنه يخطف الناس في لمح البصر. ولكن إن كان هذا موتا، أأكون في القبر أم في مكان آخر؟ ليس هنالك أثر لضيق القبر ولا لترابه. هل أنا في مكان آخر بعد أن كنت في القبر؟ لا أعلم. لم يحدثنا ميت قط عما يحدث بعد دفنه. ندفن نحن المسلمون عراة في كفن أبيض، وأنا أرتدي ملابسي. لا يبدو هذا موتا، إنه شيء آخر.
صرخ مرة أخرى: هل هنالك أحد ؟ دون أن يجد جوابا. تمنى أن يسمع صوتا، أي صوت. كان يرجو أي جلبة تملأ هذا الفضاء المريب، لكنه  لم يكن يسمع سوى صوت أنفاسه الصاعدة بصعوبة. فكر في ماذا سيفعل، لكن ذهنه كان متعبا من شدة البرودة ومن قلق الشكوك التي تنهشه منذ أن استرد وعيه. استلقى على الأرضية وأسدل جفنيه. حاول ألا يفكر في شيء. أراد أن يغفو، لعله يستيقظ في مكان آخر.
دووم... دووم..... صوت دق رهيب ! كان القرع على المعدن مهولا، وارتجاح المكان مفزعا. فتح الرجل جفنيه وتخشب في مكانه. رفع كفيه بصعوبة ثم سد أذنيه. دووم.. دووم،  كان الصوت أقوى من أن تمنعه اليدان المرتعشتان من اجتياح طبلة الأذن. لم تكن ضوضاء عادية، بل دوي مدافع. صاح الرجل بأعلى صوته كأنه يرد على الضجيج الذي اقتحم خلوته. فجأة، عاد الصمت من جديد وانتهت معه نوبة الرجل الهيستيرية. تمدد من شدة الوهن، وأحس بحرارة مريحة بين ساقيه. بلّل سرواله  دون أن يدرك ذلك، لكنه لم يكترث للأمر. كل ما أراده هو أن يغفو ويفتح عينيه مرة أخرى خارج هذا المكان.
لم تكن ذكرياته حول الخارج واضحة. كان كل ما يتذكره هو موسيقى راخمانينوف ومنضدة خشبية ونافذة مطلة على حديقة ما. ارتسمت على محياه ابتسامة بلهاء،  تذكر مقطوعة "جزيرة الموتى" وراح يحرك يديه في الفضاء ويتمرغ في بوله. فتح عينيه من جديد وراح يحدق في النوطات الموسيقية التي تبدت في الفضاء. وقف ثم اخرج قطعة الورق من جيب سترته ليثبتها في أعلى القميص. كانت الوريقة شبيهة بربطة عنق الفراشة. ظل يقرأ النوطات التي كانت تتغير باستمرار ملوحا بيده ومحركا رأسه. بدا كالمايسترو، لكن دون فرقة. ارتفع الإيقاع واشتدت أبواق العازفين، كان رأسه يلتف في كل الإتجاهات ثم يخفض حين يخف الإيقاع. بدا الرجل مغتبطا، فلم يعد المكان موحشا، بل أصبح مسرحه الخاص الذي تعزف فيه مقطوعته المفضلة.
انتهى العرض وحيّا الرجل جمهوره غير المرئي، ثم عاد للجلوس. انتزع الورقة من قمصيه وحملق فيها لبرهة. بدت له سلسلة ارقام فقط، ولم يستطع فهم معناها. دَعَكَ الوريقة بأصابعه ثم دسّها في جيبه. لامس قطعة السجائر المنكمشة فأخرجها. ظل يحدق فيها وفي بعض السجائر التي سحقت داخلها. أراد أن يدخن، لكنه لا يملك شعلة. أخذ التبغ المسحوق بأطراف أصابعه واشتمه بشغف. لم يكن يذكر لماذا يدخن، كل ما كان يعلمه أنه يتمنى إشعال واحدة الآن. ظل يلعب ببقايا التبغ بين أصابعه، محاولا النوم.
دووم... دوووم.... ، عاد الصوت من جديد. لكن أقوى هذه المرة. كان الدق شديدا يكاد يخترق المعدن. رمى الرجل بالتبغ وتخشب في مكانه. أغمض عينيه وسد أذنيه وتمنى أن يزول هذا الكابوس.
 دوووم...  دووم، توالى الدق المدمر إلى أن بزغ شعاع حارق. فتح الرجل عينيه لكنه لم يبصر شيئا. كان الشعاع الأبيض شبيها بأشعة الشمس. وبعد برهة، لاح ظلان طويلان في المكان. شرع الرجل في الصراخ وقد انفجر بكاءً: لاااااا لا تأخذوني، اتركوني يا شياطين ابليس. اقترب أحد الظلين من الرجل وحاول أن يلمسه. كان الرجل يترنح كفرس برّي ويقول: لا تلمسني أيها الجني، لا أريد أن ألبس كفنا، أتركوني يا ملاعين. لمس الظل عنق الرجل بحركة خاطفة فأغمي عليه وانقطع نحيبه.
بينما يجر الظلان جثة الرجل نحو مصدر الشعاع، ظهر ظل ثالث عند فتحة الضوء:
-         هل حقنتماه؟
-         نعم يا دكتور.
-          أخرجاه وخذاه إلى إحدى غرف العزل الشاغرة.
 أخرج الممرضان الرجل من المصعد، ووضعاه على نقالة ذات أربطة جلدية، ثم دفعاها في ممر طويل وموحش.
 قال أحدهما للآخر: تعبت من هذا الهراء، إنها المرة الثالثة التي يحاول فيها الهرب هذا الشهر. لحسن الحظ أن الكاميرات موجودة، فلولاها لما رصدناه.
-         رد زميله: لا عليك، إنه نزيل جديد، سيعتاد وضعه بعد أسابيع من العزل والحقن.
-         أتمنى ان نرتاح من قرفه وأن لا يبرح مكانه كالآخرين.
-         لا أضمن لك ذلك، لا تعلم ماقد يحصل مع هؤلاء المجانين.
-         صحيح، تخيل لو تمكن هذا المخبول من الخروج !
-         ستكون كارثة لو حصل ذلك، فعندها لن يترددوا في معاقبة أحدنا. الحمد لله أن العواقب هذه المرة كانت سليمة.
وُضع الرجل على سرير معدني، ثم قام الممرضان بربطه بالأحزمة الجلدية المثبتة بجنبات السرير. أغلق أحدهم الباب بإحكام، ثم انصرفا. كانت جدران الغرفة مغلفة بطبقة جلدية بيضاء سميكة تصد الصوت، كوخ اسكيمو دون نوافذ. خرج الرجل من المكعب المعدني الذي أوشك على تحريره ليُسجن في المكعب الجلدي المقفر. لم تكن غرف العزل تتوفر على أثاث سوى السرير الشبيه بتابوت للأحياء.
عاد أصغر الممرضين في الصباح الباكر ليتفقد الرجل. كان الرجل جثة بلا روح، حركه الممرض بحركة خفيفة كي يستيقظ لكنه لم يستجب. جس نبضه الذي يبدو أنه توقف بساعات، فجسده جامد وبارد. فتش الممرض جيوب الرجل، لم يهتم ببقايا علبة السجائر وأخذ قطعة الورق ثم وضعها في جيبه وخرج. هرول في الأروقة بخطى سريعة كي يبلغ الطبيب المسؤول. لم يكن الدكتور في مكتبه، فنادرا ما ينهي الدوام الليلي. توجه الممرض إلى قاعة الممرضين كي يبلغ زميله قبل نهاية الدوام.
دخل القاعة الشبيهة بردهة الفنادق وتوجه صوب زميله الذي كان مسترخيا على الكنبة، يشاهد أخبار الصباح على شاشة التلفاز.
-         هل تعلم أين وضعت نموذج التقرير ؟
-         رد زميله غير آبه: تضعه دائما في درج ما وتزعجني ككل مرة، لماذا تريده ؟ ما الذي حصل ؟
-         لقد مات الرجل الجديد !
-         الموت أهون له من حاله المزرية، رحمة الله عليه.
-         يبدو أننا أعطيناه جرعة زائدة !
-         إنه قدره، لا تخلط الأمور وتجلب لنا المشاكل، نحن لا نفعل إلا ما نؤمر به.
-         لكننا مسؤولون أيضا، فالطبيب لم يحدد جرعة ما.
تغيرت ملامح الممرض الثاني ووقف من مكانه، ثم قال: اسمع، نحن لسنا حملا للمتاعب. لن يحاسب أحد الدكتور وسيعود تقريرك علينا بمتاهات نحن في غنى عنها، لا أحد يريد نقطة سوداء في ملفه المهني.
أجاب الآخر: ماذا نفعل ؟
-         لا نفعل شيئا، أنت ممرض شاب وفي أول الطريق، لا تجعل حادثة صغيرة كهذه تفسد مسارك.
-         ما الذي تقصده ؟
-         من قال أن علينا أن علينا كتابة تقرير؟ أوشك الدوام على نهايته، سنكتب تقريرنا العادي ثم نذهب إلى بيوتنا.
-         ولكن ماذا عن الرجل ؟
-         سيدخل الفريق الآخر، وسيكتشفه الطبيب في جولته الصباحية وحينها سيصبح مشكلتهم التي لا نعلم عنها نحن شيئا.   
-         لا أستطيع فعل ذلك !
-         أتريد أن تخاطر بمستقبلك ؟ لن توظفك مؤسسة أخرى بعد ذلك وسيحكم عليك بالمكوث في هذا المكان القذر طويلا.
-         وماذا عن الكميرات التي تسجل كل شيء؟
-         لا أحد سيراها أو يشك في شيء، لا تكبر الموضوع.
-         لكن الرجل مات !
-          وماذا بعد؟ حثالة أخرى قد نجت من جحيمها الأزلي، لا أحد يكترث ! 
-         لا أعلم ما الذي يجب فعله.
-         عليك أن تفعل ما أقوله لك، أنا أكبر منك سنا وأكثر منك خبرة. لا تفعل شيئا ستندم عليه بقية حياتك.
-         وماذا عن الرجل الذي فقد حياته بهذه السهولة ؟ ألن يسأل عنه أحد ؟ 
-         لا أحد يبالي به، ليس له أبناء وقد رمته طليقته هنا ولم يرها أحد منذ ذلك اليوم.   
-         ضميري ليس مرتاحا لكل هذا !
-         لكل مهنة متاعبها والخطأ دائما وارد، لماذا علينا تحمل غلطة ليس لها أثر يذكر؟ ألا ترى أن الموت مريح ليه من العذاب الذي كان يعانيه؟
-         لكن مهمتنا أن نخفف عنه ونرعاه.
-         بحق السماء ! الرجل يعاني من نوبات فصام حاد، عاجلا أو آجلا كان سيؤذي نفسه. نحن لسنا هنا لعلاجهم، هذا المكان للحالات الميؤوس منها. ألا ترى أننا لا نسيطر عليهم إلا بالحقن ؟ حتى الدواء لا يمكن أن يتناولوه إلا بمشقة الأنفس واستعمال القوة.
بدا الانكسار على محيا الممرض، بلع ريقه ثم رد بصوت خافت: أنا أعلم كل ذلك، لكن... 
-         لكن ماذا ؟ الخيار بين يديك، إن عزمت على كتابة التقرير فلن أدعمك في شهادتك وتحمل مسؤوليتك. لا تنتظر من الطبيب أن يقف بجانبك، فحين تقع الفاجعة ستصدّها وحدك. 
-         لا أعلم، أمري لله !     
انتهى الدوام الليلي عند الثامنة صباحا. خرج الممرضان بعد أن كتبا وصادَقا على تقرير روتيني دون الإشارة لشيء. قرّرا عند بوابة المشفى أن لا يتحدثا عن الأمر مجددا. استقل أكبرهم سيارة أجرة وودع زميله الذي لا زالت صورة الرجل الميت تسيطر على ذهنه. أراد أن يمشي قليلا ليصرف تفكيره عن الأمر قبل الدخول للبيت. ظل يمشي في الشارع الرئيسي هائما، ثم تذكر قطعة الورق التي وجدها في جيب الرجل. توقف لوهلة، ثم أخرجها. حدق فيها لبضع ثوان، مكتوب عليها بحبر أزرق باهت سلسلة من الأرقام المبهمة 19920501 ، دون أدنى إشارة عن معناها. لم يرد أن يشغل باله أكثر، رماها وأكمل المسير ...