كان المكان مظلما،
استرد الرجل وعيه،
فوجد نفسه عاجزا عن الرؤية. تحسس أطرافه وتفقد جيب سرواله. لم يجد ولاعته، لم يكن هناك
سوى علبة السجائر المنكمشة وقطعة ورق خشنة. كانت تبدو على الوريقة أرقام ما، لكنه لم
يستطع قراءتها من شدة العتمة. سند طوله ووقف. كان السقف محاديا لرأسه. تحسس ملمسه الصلب،
بدا كنوع من الفولاذ المصقول والمطلي بدقة. فرد ذراعيه ولامس بهما نفس المعدن مرة أخرى.
كيف وصل إلى هنا ؟ حرّض ذاكرته على التذكر دون جدوى...
صرخ الرجل بأعلى
صوته دون أن يرد عليه أحد. ضرب المعدن بقوة دون أن يتغير شيء. جلس أرضا منتظرا جوابا
ما وسط الظلام والصمت. تبادرت إلى ذهنه كل التفاسير والأسئلة، لكنه لم يستطع الوصول
لأي شيء. فكر أنه يعيش حلما، أو أنه محتجز في مكان ما. ظن أن هذه مزحة ثقيلة من أحدهم
وأنه يراقبه الآن. نفث الرجل أنفاسه الساخنة في الفراغ وتنهد، ثم نطق قائلا:
هل يكون هذا هو الموت؟ ولما لا؟ يقال عنه أنه
يخطف الناس في لمح البصر. ولكن إن كان هذا موتا، أأكون في القبر أم في مكان آخر؟ ليس
هنالك أثر لضيق القبر ولا لترابه. هل أنا في مكان آخر بعد أن كنت في القبر؟ لا
أعلم. لم يحدثنا ميت قط عما يحدث بعد دفنه. ندفن نحن المسلمون عراة في كفن أبيض، وأنا
أرتدي ملابسي. لا يبدو هذا موتا، إنه شيء آخر.
صرخ مرة أخرى:
هل هنالك أحد ؟ دون أن يجد جوابا. تمنى أن يسمع صوتا، أي صوت. كان يرجو أي جلبة
تملأ هذا الفضاء المريب، لكنه لم يكن يسمع
سوى صوت أنفاسه الصاعدة بصعوبة. فكر في ماذا سيفعل، لكن ذهنه كان متعبا من شدة
البرودة ومن قلق الشكوك التي تنهشه منذ أن استرد وعيه. استلقى على الأرضية وأسدل
جفنيه. حاول ألا يفكر في شيء. أراد أن يغفو، لعله يستيقظ في مكان آخر.
دووم... دووم.....
صوت دق رهيب ! كان القرع على المعدن مهولا، وارتجاح المكان مفزعا. فتح الرجل جفنيه
وتخشب في مكانه. رفع كفيه بصعوبة ثم سد أذنيه. دووم.. دووم، كان الصوت أقوى من أن تمنعه اليدان المرتعشتان
من اجتياح طبلة الأذن. لم تكن ضوضاء عادية، بل دوي مدافع. صاح الرجل بأعلى صوته
كأنه يرد على الضجيج الذي اقتحم خلوته. فجأة، عاد الصمت من جديد وانتهت معه نوبة الرجل
الهيستيرية. تمدد من شدة الوهن، وأحس بحرارة مريحة بين ساقيه. بلّل سرواله دون أن يدرك ذلك، لكنه لم يكترث للأمر. كل ما
أراده هو أن يغفو ويفتح عينيه مرة أخرى خارج هذا المكان.
لم تكن ذكرياته
حول الخارج واضحة. كان كل ما يتذكره هو موسيقى راخمانينوف ومنضدة خشبية ونافذة
مطلة على حديقة ما. ارتسمت على محياه ابتسامة
بلهاء، تذكر مقطوعة "جزيرة
الموتى" وراح يحرك يديه في الفضاء ويتمرغ في بوله. فتح عينيه من جديد وراح
يحدق في النوطات الموسيقية التي تبدت في الفضاء. وقف ثم اخرج قطعة الورق من جيب
سترته ليثبتها في أعلى القميص. كانت الوريقة شبيهة بربطة عنق الفراشة. ظل يقرأ
النوطات التي كانت تتغير باستمرار ملوحا بيده ومحركا رأسه. بدا كالمايسترو، لكن دون
فرقة. ارتفع الإيقاع واشتدت أبواق العازفين، كان رأسه يلتف في كل الإتجاهات ثم
يخفض حين يخف الإيقاع. بدا الرجل مغتبطا، فلم يعد المكان موحشا، بل أصبح مسرحه
الخاص الذي تعزف فيه مقطوعته المفضلة.
انتهى العرض وحيّا
الرجل جمهوره غير المرئي، ثم عاد للجلوس. انتزع الورقة من قمصيه وحملق فيها لبرهة.
بدت له سلسلة ارقام فقط، ولم يستطع فهم معناها. دَعَكَ الوريقة بأصابعه ثم دسّها
في جيبه. لامس قطعة السجائر المنكمشة فأخرجها. ظل يحدق فيها وفي بعض السجائر التي
سحقت داخلها. أراد أن يدخن، لكنه لا يملك شعلة. أخذ التبغ المسحوق بأطراف أصابعه
واشتمه بشغف. لم يكن يذكر لماذا يدخن، كل ما كان يعلمه أنه يتمنى إشعال واحدة الآن.
ظل يلعب ببقايا التبغ بين أصابعه، محاولا النوم.
دووم... دوووم....
، عاد الصوت من جديد. لكن أقوى هذه المرة. كان الدق شديدا يكاد يخترق المعدن. رمى
الرجل بالتبغ وتخشب في مكانه. أغمض عينيه وسد أذنيه وتمنى أن يزول هذا الكابوس.
دوووم...
دووم، توالى الدق المدمر إلى أن بزغ شعاع حارق. فتح الرجل عينيه لكنه لم
يبصر شيئا. كان الشعاع الأبيض شبيها بأشعة الشمس. وبعد برهة، لاح ظلان طويلان في
المكان. شرع الرجل في الصراخ وقد انفجر بكاءً: لاااااا لا تأخذوني، اتركوني يا
شياطين ابليس. اقترب أحد الظلين من الرجل وحاول أن يلمسه. كان الرجل يترنح كفرس برّي
ويقول: لا تلمسني أيها الجني، لا أريد أن ألبس كفنا، أتركوني يا ملاعين. لمس الظل
عنق الرجل بحركة خاطفة فأغمي عليه وانقطع نحيبه.
بينما يجر
الظلان جثة الرجل نحو مصدر الشعاع، ظهر ظل ثالث عند فتحة الضوء:
-
هل حقنتماه؟
-
نعم يا دكتور.
-
أخرجاه وخذاه إلى إحدى غرف العزل الشاغرة.
أخرج الممرضان الرجل من المصعد، ووضعاه على
نقالة ذات أربطة جلدية، ثم دفعاها في ممر طويل وموحش.
قال أحدهما للآخر: تعبت من هذا الهراء، إنها
المرة الثالثة التي يحاول فيها الهرب هذا الشهر. لحسن الحظ أن الكاميرات موجودة،
فلولاها لما رصدناه.
-
رد زميله: لا عليك، إنه نزيل جديد،
سيعتاد وضعه بعد أسابيع من العزل والحقن.
-
أتمنى ان نرتاح من قرفه وأن لا يبرح
مكانه كالآخرين.
-
لا أضمن لك ذلك، لا تعلم ماقد يحصل مع
هؤلاء المجانين.
-
صحيح، تخيل لو تمكن هذا المخبول من
الخروج !
-
ستكون كارثة
لو حصل ذلك، فعندها لن يترددوا في معاقبة أحدنا. الحمد لله أن العواقب هذه المرة
كانت سليمة.
وُضع الرجل على
سرير معدني، ثم قام الممرضان بربطه بالأحزمة الجلدية المثبتة بجنبات السرير. أغلق أحدهم
الباب بإحكام، ثم انصرفا. كانت جدران الغرفة مغلفة بطبقة جلدية بيضاء سميكة تصد
الصوت، كوخ اسكيمو دون نوافذ. خرج الرجل من المكعب المعدني الذي أوشك على تحريره
ليُسجن في المكعب الجلدي المقفر. لم تكن غرف العزل تتوفر على أثاث سوى السرير
الشبيه بتابوت للأحياء.
عاد أصغر
الممرضين في الصباح الباكر ليتفقد الرجل. كان الرجل جثة بلا روح، حركه الممرض
بحركة خفيفة كي يستيقظ لكنه لم يستجب. جس نبضه الذي يبدو أنه توقف بساعات، فجسده جامد
وبارد. فتش الممرض جيوب الرجل، لم يهتم ببقايا علبة السجائر وأخذ قطعة الورق ثم وضعها
في جيبه وخرج. هرول في الأروقة بخطى سريعة كي يبلغ الطبيب المسؤول. لم يكن الدكتور
في مكتبه، فنادرا ما ينهي الدوام الليلي. توجه الممرض إلى قاعة الممرضين كي يبلغ
زميله قبل نهاية الدوام.
دخل القاعة
الشبيهة بردهة الفنادق وتوجه صوب زميله الذي كان مسترخيا على الكنبة، يشاهد أخبار
الصباح على شاشة التلفاز.
-
هل تعلم أين وضعت نموذج التقرير ؟
-
رد زميله غير آبه: تضعه دائما في درج
ما وتزعجني ككل مرة، لماذا تريده ؟ ما الذي حصل ؟
-
لقد مات الرجل الجديد !
-
الموت أهون له
من حاله المزرية، رحمة الله عليه.
-
يبدو أننا
أعطيناه جرعة زائدة !
-
إنه قدره، لا تخلط الأمور وتجلب لنا
المشاكل، نحن لا نفعل إلا ما نؤمر به.
-
لكننا مسؤولون أيضا، فالطبيب لم يحدد
جرعة ما.
تغيرت ملامح الممرض الثاني ووقف من مكانه، ثم قال: اسمع، نحن لسنا
حملا للمتاعب. لن يحاسب أحد الدكتور وسيعود تقريرك علينا بمتاهات نحن في غنى عنها،
لا أحد يريد نقطة سوداء في ملفه المهني.
أجاب الآخر:
ماذا نفعل ؟
-
لا نفعل شيئا، أنت ممرض شاب وفي أول
الطريق، لا تجعل حادثة صغيرة كهذه تفسد مسارك.
-
ما الذي تقصده ؟
-
من قال أن علينا أن علينا كتابة تقرير؟
أوشك الدوام على نهايته، سنكتب تقريرنا العادي ثم نذهب إلى بيوتنا.
-
ولكن ماذا عن الرجل ؟
-
سيدخل الفريق الآخر، وسيكتشفه الطبيب
في جولته الصباحية وحينها سيصبح مشكلتهم التي لا نعلم عنها نحن شيئا.
-
لا أستطيع فعل ذلك !
-
أتريد أن تخاطر بمستقبلك ؟ لن توظفك
مؤسسة أخرى بعد ذلك وسيحكم عليك بالمكوث في هذا المكان القذر طويلا.
-
وماذا عن الكميرات التي تسجل كل شيء؟
-
لا أحد سيراها أو يشك في شيء، لا تكبر
الموضوع.
-
لكن الرجل مات !
-
وماذا بعد؟ حثالة أخرى قد نجت من جحيمها
الأزلي، لا أحد يكترث !
-
لا أعلم ما الذي يجب فعله.
-
عليك أن تفعل ما أقوله لك، أنا أكبر
منك سنا وأكثر منك خبرة. لا تفعل شيئا ستندم عليه بقية حياتك.
-
وماذا عن الرجل الذي فقد حياته بهذه
السهولة ؟ ألن يسأل عنه أحد ؟
-
لا أحد يبالي
به، ليس له أبناء وقد رمته طليقته هنا ولم يرها أحد منذ ذلك اليوم.
-
ضميري ليس مرتاحا لكل هذا !
-
لكل مهنة
متاعبها والخطأ دائما وارد، لماذا علينا تحمل غلطة ليس لها أثر يذكر؟ ألا ترى أن
الموت مريح ليه من العذاب الذي كان يعانيه؟
-
لكن مهمتنا أن
نخفف عنه ونرعاه.
-
بحق
السماء ! الرجل يعاني
من نوبات فصام حاد، عاجلا أو آجلا كان سيؤذي نفسه. نحن لسنا هنا لعلاجهم، هذا
المكان للحالات الميؤوس منها. ألا ترى أننا لا نسيطر عليهم إلا بالحقن ؟ حتى الدواء
لا يمكن أن يتناولوه إلا بمشقة الأنفس واستعمال القوة.
بدا الانكسار على محيا الممرض، بلع ريقه ثم
رد بصوت خافت: أنا أعلم كل ذلك، لكن...
-
لكن ماذا ؟
الخيار بين يديك، إن عزمت على كتابة التقرير فلن أدعمك في شهادتك وتحمل مسؤوليتك.
لا تنتظر من الطبيب أن يقف بجانبك، فحين تقع الفاجعة ستصدّها وحدك.
-
لا أعلم، أمري
لله !
انتهى الدوام الليلي عند الثامنة صباحا. خرج
الممرضان بعد أن كتبا وصادَقا على تقرير روتيني دون الإشارة لشيء. قرّرا عند بوابة
المشفى أن لا يتحدثا عن الأمر مجددا. استقل أكبرهم سيارة أجرة وودع زميله الذي لا
زالت صورة الرجل الميت تسيطر على ذهنه. أراد أن يمشي قليلا ليصرف تفكيره عن الأمر
قبل الدخول للبيت. ظل يمشي في الشارع الرئيسي هائما، ثم تذكر قطعة الورق التي
وجدها في جيب الرجل. توقف لوهلة، ثم أخرجها. حدق فيها لبضع ثوان، مكتوب عليها بحبر
أزرق باهت سلسلة من الأرقام المبهمة 19920501
، دون أدنى إشارة عن معناها. لم يرد أن يشغل باله أكثر، رماها وأكمل المسير ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق