الثلاثاء، 5 ديسمبر 2023

ليلي

 

Danica Ondrejovic - Conversation



تحدث الأشياء المثيرة صدفة...

 تعرفت على إحداهن في تطبيق للمواعدة، فاتفقنا أن نلتقي في نفس اليوم. كانت في الطريق لزيارة مدينتي من أجل قضاء  "الويكاند" كما يسميه المتمدرسون.  لابد أن لها غرضا ملحّا لتفسد نهاية الأسبوع باستنشاق هواء آسفي الملوث وتختنق بنسيم بحره الذي يطغى عليه الكبريت ويفسد خفته.

وصلت السيدة إلى آسفي في تمام الثامنة مساء. اتصلت بي وطلبت أن أمهلها بعض الوقت لتأخذ حماما وتستريح من عناء الرحلة. جهزت نفسي وارتديت ردائي الموقر الذي أبدو فيه أكبر سنا، ثم خرجت قبل الموعد. لم يكن من عادتي أن ألتقي شخصا غريبا بهذه السرعة، لكني قررت أن أخرج عن القاعدة وأعبث قليلا كما يفعل معظم الناس. لم تعد علي حساباتي بشيء سوى الرتابة والإقصاء، فل أجرب بعضا من العشوائية لعلها تُسليني. 

 كنت متوترا بعض الشيء، فقررت أن أشرب بعض الكؤوس كي أسترخي. لا يصدق المرء ما يمكنه التحمل بالشرب. إنه ترياق سماوي، حلّال العقد، باعث السعادة وملطف الأجواء. شاء القدر أن أكون من النوع الكتوم، لذا من الضروري أن لا يبدو علي ذلك عند اللقاء الأول. يجب أن أباشر بالحديث وأستفيض فيه كي لا يكون الموعد مُملا، فالنساء تحب الرجل الثرثار الذي يبوح بكل شيء. لا أعلم لماذا، لكنهن لا يشعرن بالأمان إلا بكثرة المعلومات حتى لو كانت تافهة، ويقلقهن الصمت لحد الريبة، فيتجنبن الرجل الصامت الهائم في نفسه وفي سرائره. ربما لهذا يسميهم البعض "شريكات حياة"، فكل النساء اللائي عرفت تحب أن تشارك معهن كل شيء، حتى أدق تفاصيل يومك.

 دخلت أقرب الحانات لبيتنا. حانة "الرياضيين" أو كما يسميها شريبة المدينة "بار ليهودي" نسبة لمالكها القديم رجل الأعمال المغربي من أصل يهودي "موسيو جوزيف". كان جوزيف من أطيب الناس وأكرمهم، وكانت حانته معروفة بأكلات السمك الطازج وبزبنائها المحترمين من الطبقة المتوسطة. غيّر المُلاك الجُدد هذا العُرف، وأصبحت ملاذا لأي مُتردّ أراد أن يُذهب عقله ويتقيئ همومه. كانت تعجّ بعدائي الخمر الذين يرمون حياتهم عند الباب ويقتحمون أولمبياد البار الصاخب. من عادتي أن ألجها لأكل طاجين الأخطبوط الشهي "زيز" الغارق في الصلصة الحارة واحتساء النبيذ، لكني هذه المرة اكتفيت بالشرب فقط. طلبت  بيرة "ستورك" باردة، فلا شيء غيرها يكْسر قلق الانتظار. لم أكثرت لمباراة المنتخب الوطني الودّية التي أذيعت في التلفاز ولا لموسيقى الشعبي التي تحرك رؤوس بعض السكارى. كنت مُنغمسا في موسيقى " جورج تورغود" على هاتفي النقال منتشيا بوخز البيرة على طرف لساني ومُحدقا في وجوه الشخوص التي تملأ المكان. غريب أمر السكارى في بلدنا، ما ان يثملو حتى يُخرجوا ما فيهم من اختلال وعنف ومواهب.

 انهيت الشقراء النديّة، ثم هفا قلبي لبعض الدفئ. أين تراني أجد الدفئ في غير المصل البني؟ طلبت من النادل احضار كأس من "الجوني ووكر" دون ثلج ومزجه بالماء بدل الكولا. الثلج والكولا يفسدان مذاقه القوي فيصير ككوكتيلات الفودكا عديمة الطعم والرائحة. ظللت منتبها لهاتفي في انتظار إشارة لقدوم ليلي، لكن لم تبعث أي شيء. سألتها  في رسالة نصية عن اقتراب وصولها، فاعتذرت وطلبت مني أن أنتظرأكثر. نهلت كأس ويسكي أخرى وطلبت من النادل إحضار البيرة من جديد. أمضيت الوقت بمشاهدة الكهول الراقصين، الذين يفرحون لحظة ثم يسبّون العالم في اللحظة الأخرى. كانوا كالحياة، سلسلة من الأفراح واللعنات، تختلف حدّتها حسب حظك.   

رن هاتفي بعد حوالي نصف ساعة منذ الرسالة الأخيرة، كلمتني ليلي مُعلنة قدومها. دفعت للنادل وهرولت اتجاه مدينة الفنون، أحد أهم المؤسسات الثقافية التي تُنظم فيها التظاهرات في المناسبات الرسمية لتمجيد سيل الثقافة الذي يفيض في هذا البلد. كانت ليلي تنتظرني عند الرصيف في الشارع الرئيسي المحادي للحانة داخل سيارة رمادية، رمقتها من بعيد ثم اتجهت صوبها. فتحت الباب وألقيت التحية. كانت تُكلم أحدهم في مكالمة فيديو على تطبيق الواتساب. انتظرت نهاية المكالمة، ثم استبقتها قائلا: 

-         أخشى أن أكون عطلتك عن مكالمة عمل.  

-          لا تقلق، كنت أكلم جاري وأوصيه بالاعتناء بمنزلي.

-         حسنا، أنشرب فنجان قهوة أم نتناول العشاء ؟ 

-         لا، أريد أن أتجول قليلا في آسفي وحسب.

-         حسنا، لننطلق فالوقوف على هذا الرصيف ممنوع.

-         قهقهت ليلي بصوت عال وأجابت : ممنوع، أنا لا أكترث !

-         أجبتها وفكرة دورية الشرطة الليلية تجول في رأسي : لكن البوليس يكثرت.

انطلقنا نجول شوارع المدينة الخالية متجاذبين أطراف الحديث. لم يكن اسمها ليلي، لكنها بدت كذلك. سميتها ليلي لأنه ناسب ملابسها المزركشة وشعرها المنفوش الذي اختلطت فيه الصفرة بالسواد. كانت نشيطة ومرحة، تعرف الكثيرين وتتكلم الانجليزية بطلاقة. وامضة كشعلة من الطاقة وهي تسُوق وتتكلم عن حياتها وأصدقائها في الولايات المتحدة الأمريكية وعن عملها الجمعوي. تكلمت عن كل شيء وانتقلت بين مواضيع مختلفة بسرعة لم أستطع مواكبتها، لكن الابتسامة لم تفارق محيّاي لحظة واحدة كي أخفي عدم استماعي لجل ما قالت.  

استمرت الرحلة إلى حين توقفنا عند هضبة برج الناظور، بسيدي بوزيد المطلة على المدينة والمحيط. فتحنا النوافذ لنستنشق بعض الهواء الطري، لكن الريح العاتية حملت معها بعض الشوائب التي استقرت إحداها على جفن ليلي. شرعت ليلي في النظر لمرآة السيارة الصغيرة مُحاولة سحب ما علق بعينها، اسغللت الفرصة وجذبتها نحوي كي أطلع على مُقلتيها، ثم قلت بصوت خافت:

- عيناك جميلتان، تخفيهما النظارة.

- ضحِكت بخجل: أنا لا أرى جيدا بدونها.

 

مررت أصابعي على شعرها القصير المجعد وأنا أخترق مقلتيها بنظرات شهوانية، اقتربت أكثر وحاولت سرقة قبلة من شفتيها الطريتين لكنها استوقفتني :

-         أنت سكران.

-         كلا، لست كذلك، أريد تقبيلك.

-         لا أحب رائحة الكحول، كما أعتقد أن الوقت ليس مناسبا.

تناسيت فكرة الوقت المناسب وغيرت المحادثة نحو الكحول:

-         لا عليك، أنا أحترم رأيك في الكحول مع أنني لا أشاطرك إياه.

-         ردّت : عرفت أصدقاء كثيرين، وكان أغلبهم يدخن ويسكر ويتخدر لكنني لم أجرب شيئا قط.

-         نعم، ليس شرطا أن تكونِ نسخة لمحيطك.

أجبتها جوابا ديبلوماسيا مع أني لم أصدقها. لا يمكن لشخص عاش فترة في الخارج ألا يجرب شيئا إطلاقا، كما أن شخصيتها الإندفاعية وطاقتها الهوجاء تقول عكس ذلك. لكن ماذا عساي أفعل؟ فكل النساء يرددن كذبتهن الأزلية " لم يسبق لي أن فعلت" ثم يُتبعنها بأي شيء أردنك أن تصدقه. تعاشرها فتردد: لم يسبق أن لمسني أحد، تسافر معها لمكان ما فتسارع بالقول: لم يسبق لي أن سافرت مع أحد، وهكذا دواليك. الممتع في الأمر أنهن لا يكثرتن إن صدقت أم لا، المهم أنك ستسمع تلك العبارة حين تكون رفقة الجنس الناعم، الذي يكذب ويخدع ويخون ولكنه لا يُسدد اللكمات. 

طلبتْ أن نغير المكان، فوافقت دون تردد. أكملنا الجولة عائدين صوب وسط المدينة، مرورا بسيدي بو الذهب و بساحة مولاي يوسف المطلة على قصر البحرالمهترئ الذي يتهاوى عاما بعد عام. وصلنا لحديقة على مقربة من منزلي، وتوقفنا للحديث مرة أخرى. عرضت عليها تناول العشاء من جديد، لكنها استمرت في التهرب.

 حدثتني عن عملها بمراكش في مجال السياحة وعن الزيارة التي تخطط لها صباح الغد لشاطئ الواليدية لتفقد الفيلا التي تخصصها للعطَل الصيفية. كنت شارد الذهن، أستمع ملتقطا بعض الكلمات ومومئا برأسي، منشغلا بفكرة أن هذه الليلة لن تنتهي بشيء. لاحظت ليلي أني غير مهتم بتفاصيل عملها، فعرضت علي مشاهدة بعض الصور لكلبها "جوي". استلطفت جوي وعبرت لها عن حبي للكلاب وحكيت لها تجاربي معهم في الطفولة. كان حب هذه الكائنات الوفية هو ما اتفقنا حوله. أشارت الساعة لمنتصف الليل، ودعتها واعتذرت لها عن الإزعاج الذي سببته رائحة الكحول ثم انصرفت مهزوما غير ظافر بشيء، لكن لي شرف المحاولة. تمنيت أن نتناول العشاء ونشرب النبيذ معا، وأن أمضي ليلتي في فراش هذه الغريبة، ألاعب جسدها المتعب وأتيه في تفاصيله وترهّلاته، لكن رائحة الكحول حالت دون ذلك. لا أدري إن كان الكحول هو السبب، لكني فضلت تعليق فشلي على شماعته. من يدري؟ قد يكون هنالك سبب آخر.

كانت ليلي حلما، ومضة خاطفة عابرة، لم أرها منذ تلك الليلة. لم أحاول الاتصال بها لأنها لم تطلب ذلك، مع أنني لم أكف عن التفكير فيها لأيام. أقنعت نفسي أن ما يحدث دون حسبان، يزول دون حسبان. لم يكن لقاؤنا مقررا، لذا تعاملت مع الوضع كأنه لم يحدث قط وكبحت كل سؤال يدور في رأسي عنها. أكملت المضي نحو المجهول، دون علم ما الذي قد تخفيه الأيام، قد أصادف ليلي وقد لا أقابلها مرة أخرى في حياتي. هكذا هي اللقاءات والعلاقات، عابرة ومتلاشية في الزمن. لا مفر من الوحدة، فهي على ما يبدو، الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود.         

الاثنين، 12 يونيو 2023

السويلم: " كائن أسطوري من الدرجة الرابعة "

Edgar Balogh

 

كانت أعتى من الرجال. لم أصادف قط شخصا ينهل كل أنواع الخمور كما تفعل. كانت بلاعة كحول، تجرعه كما تجرع الماسورة كل مياه الشارع في يوم مطير. صامدة طوال الليل، ثابتة كالمنارة في وجه الموج. لا تسقطها قناني النبيذ الزهيد التي تشفطها تباعا دون جهد ولا تتعبها ساعات السهر. كان علقم المُغرابي البلاستيكي ترياقها الذي يعيدها للحياة ويشحن رغبتها في العيش. لم تكن تفعل شيئا سوى الشرب والمضاجعة. جثة متحركة، فرانكنشتاين يجول صباحا بين الغرباء ثم تُبعث فيه الروح ليلا حين يسكر. كان الخمر هواءها الذي تتنفسه، غايتها الوجودية، فإما أن تشربه أو لا تكون.

 ناداها الكل بالسويلم لأنها تنفث دخانها وتشرب نبيذها بشموخ كالرجال. كانت فخورة لنيْلها الاحترام في أوساط لا يمكن أن تكون لك مكانة فيها إلا بالدراهم التي في جيبك أو بالحكايات التي في جعبتك. وصفت نفسها دوما بأنها منشطة اجتماعية. تلطف الأجواء، تستمع للمتحدثين، تضحك على النكات وتغني مع من أفتى عليه الشرب بالغناء. لم تكن تضاجع من هب ودب كباقي حيتان الليل اللائي يبتلعن كل من امتلأ جيبه. تختارالسويلم شريك الفراش على هواها. لا يهم أن يكون فحلا أو يكون كريما معها، يكفي أن يكون شرّيبا طيبا لا تخلو مائدته من اللترات وأن لا يكون مقيتا مُعكرا لصفو الطقس الخمري. كانت دائما تقول أن الثمالة أثمن من أيْر الرجال ونقودهم.

كانت علاقة السويلم بالمال مشوشة جدا. لم يكن له معنى سوى أنه الوسيلة التي تجعل ضجر الليل ممتعا. كانت تنفق كل فلس تحصل عليه في شراء عتاد الأنس، لترات النبيذ ومعسل النعناع وفحم الليمون الذي يشتعل سريعا دون أن يرُج رأس مُدخنه. لم تكن تُرهق ذهنها بالتفكير في اللباس والزينة. لم تكترث لما يشغل بال باقي النساء ولم تكن متعلقة بأوهام الإرتقاء في سلم المجتمع. عرفتها لسنوات ولم أسمعها مرة تمدح سيارة أو منزلا ما، كما تفعل بنات الليل اللائي لا يُضعن فرصة التفاخر بالشقق والفنادق اللائي دخلنها وتعرقن فوق أسِرّتها أو بالسيارات التي ركبنها في رحلات البغاء خارج المدينة. كان شغلها الشاغل هو ماذا ستشرب وأين ستشربه، ويومها مجرد مَعْبر مُقلق تجاه دُجى بهيج.

كانت السويلم تقيم مع والدتها وشقيقتها في حي شعبي جنوب آسفي. توفي والدها وترك لهم طابقا أرضيا يأويهم. لم يكثرت أحد ممن تعيش معهم بما تفعل. تغيب لأيام دون أن يسأل عنها أحد، لها حرية التصرف إلا في الشرب الذي منعته أمها في البيت. لم ترفض السويلم رغبة الوالدة لأنها تعي مشاكل الشرب وقرف أقرانه. كانت تخاف على سُمعتها في الحي وتعبث بعيدا عنه، لا يربطها بجيرانها شيء سوى القاء التحية حين تفرضها الصدفة.

 كانت تخفي نهدها المستفيض وسيقاناها الهزيلة في الجلابيب، وتغطي شعرها المنفوش تحت اي قطعة قماش، كأي امرأة في خريف العمر. ترتدي الجلباب وتختلط بالجموع كي تتقي فضول نظراتهم وشر أقاويلهم. عندما ترتاح في جلسات الأنس، تنزع رداءها البالي وتُظهر شعرها القصير الداكن، متحسرة على طوله وجماله في أيام شبابها قبل أن يعصف بها الزمن. كانت دائمة الشكوى حيال يدها اليمنى التي تَهشمت مرتين بفعل حادثة سكر قديمة لم يزُل ألمها، والتي جعلت مِشوارها للسوق مُضنيا وقُفة الخضارعذابا لا تقوى يدها الضعيفة على تحمله. وَصَفها أحد المخمورين ذات مرة حين لمحها تمشي باعوجاج من بعيد، مُثقلة بجبيرتها فقال:  "السويلم ليست بشرا، إنها كائن أسطوري من الدرجة الرابعة". لم يعي أحد ما الذي قصد بذلك، لكن كلامه بدا مقنعا ونحن سكارى. ضحكنا عليه لبضع ثوان ثم مررنا مرور الكرام ولم نذكره مرة أخرى...   

رن هاتف السويلم ذات جمعة، فردت:

-         الو فاطمة، كيف حالك ؟

-         بخير يا حبيبتي وأنتِ؟

-         الحمد لله، لقد استيقظت للتو من القيلولة، تناولت الكسكس وغفوت.

-         يال حظك، فأنا لم أنم منذ البارحة. لا يهم، ألم تسمعي آخر الأخبار؟

-         ما الذي حصل؟ لا تقولي أن هنالك زيادة جديدة في ثمن الحنظل.

قهقهت فاطمة وأجابت:

-         اللهم احفظنا من الزيادات، لقد خرج الدغوغي من السجن وسنحتفل به هذا السبت.

اقشعر بدن السويلم وارتفعت نبرة صوتها المغتبط:

-         هذا خبر سار، اشتقت إلى رؤيته وسماع قصصه.

-         سنمضي الليل بطوله نستمع له، فقد غاب عنا طويلا.

-         نعم، ثلاث سنوات مرت على جلساته المثيرة.

-         افتقدناه كثيرا، لا تنسي ان تحضري مبكرا في المكان المعلوم، كي نحضر الطعام ونستقبله مساءً.

-         لا تقلقي يا عزيزتي، سأكون في الموعد. 

خرجت السويلم في عجلة من أمرها يوم السبت بعد الظهيرة وهي تحمل قُفتها المعهودة التي تمتلأ ببعض الخضار وعُدّة النارجيلة. هرولت في اتجاة الشارع الرئيسي حيث يلتقي الحي العمالي وحي الكورس لتركب سيارة أجرة، ثم ارتمت في أول عربة مارة.

وصلت السويلم إلى مرتع صُبحة السوء كما تُسميه وطرقت باب الفيلا المهترئة.  كان المكان باهتا وسط صف من المنازل الفاخرة في مركز المدينة الجديدة على مقربة من المحطة الطرقية. تحيط بأسواره النباتات المتسلقة الغير مُشذبة والتي تجتاح الباب الخشبي المرصع بأقراص معدنية صدئة. كان المدخل شبه متوار بين كم الخضرة، لا يدركه سوى من زار المكان سابقا. فتح عزيز الباب دون أن ينطق بكلمة وتخشب أمامه كأنه إحدى صخور السور. نظرت إليه السويلم باستغراب ثم قالت: 

-         ألن تسمح لي بالدخول؟

رد عزيز وعلامات الإستياء بادية عليه: ماذا تريدين؟ ألم تسُبيني آخر مرة وطردتك.

ردت: لم أكن لأحضر، لولا المناسبة. لقد دعتني فاطمة فهي صاحبة الشراب وأنا من سيُوقد الشيشة ويُعد العشاء، ما الذي تريده أكثر من ذلك؟

-         وأنا من يملك سقفا أين يمكنكم القيام بكل هذا، فلولاي لكنتم كالذباب تطوفون الخلاء وتسكرون في المقابر مع قطاع الطرق والمجانين.

-         لا داعي لهذا الكلام الآن، دعنا نحتفل بعودة الدغوغي ولنعاتب بعضنا فيما بعد.

خرجت فاطمة مهرولة في اتجاههم: أ تحسب نفسك ضابط جمارك، اتركها تدخل فأنا في حاجة لها. ليس لدينا الوقت، علينا إعداد الطعام، أو أنك تريد النوم جائعا؟

-         من قال لك أنني أنام جائعا؟ أتحسبينني من اللقطاء الذين يبيتون معك؟

تجاهلته فاطمة والتفتت اتجاه السويلم ثم قالت بنبرة جدية: لا عليك، مصارين البطن تتعارك. هيا ادخلي بسرعة.

أفسح عزيز المجال ثم ابتعد مهزوما وأشعل سيجارة في الحديقة. دخلت السويلم رفقة فاطمة وتوجهتا نحو الغرفة الفسيحة في ركن الحديقة التي كانت مرآبا سابقا لسيارات الحاج فضيل. لم يكن عزيز يسمح لهم بدخول المنزل الذي يقطنه مع زوجة أبيه المسنة. كانوا يسهرون في المرآب ذي الأثاث المتواضع ويطبخون طعامهم على الفحم خارجه. كان كل شيء يتم في حديقة الفيلا.

كان عزيز ابن الحاج فضيل الوحيد، تاجر سمك كبير ومالك لعشرات قوارب الصيد في آسفي. توفي الحاج وترك له كل شيء، لكن عزيز أضاع ثروة أبيه في الشرب والعربدة، يطوف الحانات ويبيت بين سيقان المومسات. لم يبقى له شيء سوى هذا المسكن الذي منحه الحاج لزوجته الثانية، لالة حليمة التي عطفت عليه وآوته من الشوارع بعد أن أهدر كل فلس من ميراثه. كان عزيز يحترمها كثيرا ويعتني بها، لأنها الشخص الوحيد الذي أنقذه من محنته، فبدونها كان ليكون مشردا أو مسجونا أو ميتا. 

القى عزيز عقب سيجارته ثم دخل للبيت مُسرعا بعد أن نادته العجوز. شرعت فاطمة والسويلم في تقشير الخضار لإعداد طاجين لحم الغنم الذي يعشقه الدغوغي، ثم باشرتا تجاذب أطراف الحديث:

-         ماذا سنشرب اليوم؟

-         لا تقلقي عزيزتي، اليوم ليلة مميزة ولهذا أحضرت ما يناسبها.

-         شكرا على دعوتي، لقد سئمت حموضة النبيذ الأحمر.

-         اليوم ستشربين أحسن أنواع الويكسي على شرف صديقنا.

مرت ساعة، واكتمل تحضير الطاجين. لم يعد ينقص سوى وضعه على النار والاستعداد للمجلس. أشعلت السويلم نار المِجمر الخزفي قرب باب المرآب ووضعت الطاجين ليستوي على مهله. أخذت بضع جمرات لتشعل بها النارجيلة، غسلت الكؤوس الزجاجية الملطخة بحمرة النبيذ ثم عادت للوكر. بينما تملأ قارورة النارجيلة بالماء، أخرجت فاطمة قناني البيرة الندية من كيس أسود. أخذت السويلم زجاجة الستورك الدامعة دون كلام وضربت عنقها مع زجاجة فاطمة، ثم شربتا نخبا صامتا يؤرخ لسنين من الصداقة والإدمان. اختفت كل الأصوات إلا صوت فقاعات البيرة الخفيف الذي يخترق الآذان كفحيح الأفاعي. انتعشت السويلم بهذه المقبلات ثم باغثت فاطمة بالسؤال: متى سنفتح عروس الليلة؟

انتفضت فاطمة في وجهها دون شعور: أتفكرين فيها من الآن، لم يحن وقتها بعد. سنفتحها حين يطل علينا عريس الليلة.

-         أ علينا الانتظار؟ متى سأتي الدغوغي؟ ألم تتصلي به ؟

-         لهذا السبب جلبت البيرة، كي أتفادى هذا السجال. سأفتح لك واحدة أخرى واغربي عن وجهي حتى يحين الوقت، لن أفتح ويسكي فاخر قبل أن أتناول الطعام ويحضر الكُل.   

ابتسمت السويلم ابتسامة ماكرة ثم قالت: لا عليك، لا تغضبي. افتحي لي واحدة لتخفف عناء الانتظار.

شرعت فاطمة في فتح بيرة تلوى الأخرى لتروي عطش السويلم الذي يزيد مع مرور الوقت. كانت فاطمة تطل بين الفينة والأخرى على الطبق الذي أوشك على النضج، وتغيب في الحديقة لدقائق طويلة متحدثة في الهاتف. أدركت السويلم أن الدغوغي سيتأخر كعادته التي لم يُغيرها السجن، ثم خرجت لتفقد الوضع في الحديقة. كانت فاطمة منشغلة في مكالمة طويلة مع أحدهم دون الاكتراث للطاجين. لوحت لها السويلم لتعلن أنها ستأخذ الطبق للطاولة كي لا يحترق قاعه ويلتصق اللحم بالخزف، فيضيع مذاقه. أماءت فاطمة برأسها في حركة لا مبالية وعادت إلى المكالمة. أدخلت السويلم الطاجين ووضعته فوق المائدة المتداعية، ثم جلست ترتشف بقايا بيرتها التي أفسدتها حرارة الغرفة.

طال غياب عزيز وفاطمة، وبدأ الملل يتسلل لبال نديمتهما ويُقلق راحتها. راحة لا يمكن أن تستمر إلا بالترياق السحري الذي يُبيد كل سوء ويكسو الدنيا حُبورا. لم يعد في الكيس بيرة، وصار بريق الغرفة باهتا بعد الدقائق الأولى من جفاف الحلق. نفِذ صبر السويلم، فانقضت على حقيبة فاطمة المضمرة في درج الطاولة الخشبية التي وُضع عليها الراديو. فتحت الحقيبة الجلدية ثم أخرجت الجوهرة المنتظرة. كانت عيناها تلمعان وقلبها يخفق من شدة الفرح. أرادت أن تلقي عليها نظرة منذ أن وصلت، لكن رقابة فاطمة حرمتها من هذه النعمة.

 أحسّت السويلم أن عجرفة عزيز وإهمال فاطمة لا يستحق هذا الكنز. قالت في نفسها أنهم قوم جاحد، لا يكثرت الأول بالشرب لأن صُحبته اليومية تتكفل به، والثانية تشرب مجانا مع زبناءها الذين لا يبخلون عليها بأفخم الخمور طلبا لرِضاها. لا أحد فيهم يستحق مقارعتها، هي التي وهبت نفسها للشرب. ألا يحقّ لها أن تنهل بعضا من بهيه؟ ألا يستحق هذا الحلق حرارة الويسكي وحلاوة معطراته؟ بدت فكرة مشاطرتهم لهذا الزُلال فكرة غير عادلة. كيف لهم أن لا يحترموا زجاجة الجوني ووكر، ويتركوها وحيدة في درج مُسوس؟ إنها أميرة محتجزة في كهف غول، تنتظر مِغوارا يلوذ بها نحو الخلاص، يحررها من أسرِها و يَعِدها بمصير أفضل. كانت السويلم هي الفارس المُخلّص لهذه الزجاجة الثمينة، هي من يستحقها بين كل هؤلاء السكارى الفاقدين للذوق. إنهم زمرة لا تصلح سوى لشرب أسوء الأنواع. اعتبرت السويلم نفسها المالك الشرعي لهذا الويسكي. حملته بكل جرأة وأنفة ووضعته في قُفتها، ثم جمعت أجزاء النارجيلة معه. قررت أن ترحل عن هذا المرآب القذر الذي لا يجب أن تُسكب فيه كأس واحدة من هذه الزجاجة مهما كانت المناسبة. فليذهب الدغوغي للجحيم، لو كان يريد القدوم لجاء في الموعد، لكنه مثلهم. قروي جاهل، لم يقبل الدعوة إلا ليزيح عنه شهوة السنين التي توحشت خلف القضبان. لا يهمه الشرب، ولن يحضر سوى من أجل ركوب فاطمة بدل بطانية السجن الباردة. لا يكثرت لطاجين لحم الغنم بقدر رغبته في لحم فاطمة الحِنطي الذي لم يفقد نضارته بفعل الشبّة وأعشاب التجميل التي تلطخها في كل حمام. فليذهبوا للجحيم !

خرجت السويلم في خطوات حذرة نحو المخرج. لم يكن هنالك أثر لعزيز ولا لفاطمة، لابد أنها تتبول في مكان ما، فصوت كلامها لازال مسموعا في الأفق. استغلت الهاربة ظلمة أول المساء وهرولت في اتجاه الباب، فتحته بروية دون إصدار أي صوت ثم انسلت انسلال القطط. شقّت السويلم طريقها في خطى سريعة واختفت عند أول ناصية. كان قلبها يخفق بشدة وهي تقترب من محطة سيارات الأجرة. لم يعد بينها وبين عشيقتها سوى القليل، ستختلي بها فور الفرار من هذا الحي اللعين الذي يغرق في العتمة رغم ثراء أصحابه. أصبحت محطة سيارات الأجرة على مقربة منها، فنورها بات واضحا عند نهاية الشارع. وصلت السويلم للمحطة وصعدت في سيارة أجرة مهترئة من نوع اونو. نظر لها السائق مبتسما وقال: أهلا بالسويلم، أتريدين الذهاب للبيت أم إلى مكان آخر؟

ردت بعد أن تعرفت على ملامحه في ضوء السيارة الخافت: عبد العالي، أ هذا أنت؟ أقسم لك أنني لم أتعرف على السيارة، كيف حالك، وحال أطفالك؟

-         الحمد لله، كل شيء بخير يا أختي، ها نحن ذا نشقى من أجل لقمة العيش.

-         ما حال سهراتك؟ أما زلت تشرب مع احمد الميكانيكي وزُمرته؟

-         لا ، عفى الله عني من رفقة السوء تلك، لقد اكتريت شقة مع رجل مسن الله يعمرها دار.

-         جيد، وأين يقع مرتعك الجديد؟

-         ليس ببعيد، قرب مستشفى محمد الخامس بجنان مستاري.

-         أتريد الشرب؟

-         الآن؟ أنا أعمل.

-         نعم، الآن. لدي زجاجة فاخرة تستحق ترك كل شيء من أجلها، هل ستقدرها أم ستتكبر؟

-         فاخرة؟ لم أتذوق طعم شيء فاخر منذ أهداني أخي في الصيف زجاجة كونياك فرنسية أنيقة، ظللت أغازلها طوال الليل على ضوء الشموع وعلى ايقاعات جاك بريل.

-         هيا بنا، يبدو أنها من نصيبك.  

-         أمري لله، اليوم خمر وغدا أمر.

انطلق عبد العالي نحو شقته التي يلهو فيها بعيدا عن تعب العمل وعن صخب أسرته. ظل هاتف السويلم يرن طوال الطريق لكنها لم تجب. كانت تفكر في شيء واحد فقط، الزجاجة التي أنقذتها من براثن الجهلاء والتي كُتب لها أن تُفتح في مكان أفضل. سئمت السويلم من رنين الهاتف المزعج فأجابت فاطمة بلغة هادئة: " اذهبوا للجحيم" ثم أقفلت الخط وفصلت بطارية الهاتف.

نطق عبد العالي: من الذي يزعجك؟

ردت بثقة: لا عليك، اذهب بنا لنشرب.