Danica Ondrejovic - Conversation |
تحدث الأشياء
المثيرة صدفة...
تعرفت على إحداهن في تطبيق للمواعدة، فاتفقنا أن
نلتقي في نفس اليوم. كانت في الطريق لزيارة مدينتي من أجل قضاء
"الويكاند" كما يسميه المتمدرسون. لابد أن لها غرضا ملحّا لتفسد نهاية الأسبوع
باستنشاق هواء آسفي الملوث وتختنق بنسيم بحره الذي يطغى عليه الكبريت ويفسد خفته.
وصلت السيدة إلى
آسفي في تمام الثامنة مساء. اتصلت بي وطلبت أن أمهلها بعض الوقت لتأخذ حماما
وتستريح من عناء الرحلة. جهزت نفسي وارتديت ردائي الموقر الذي أبدو فيه أكبر سنا،
ثم خرجت قبل الموعد. لم يكن من عادتي أن ألتقي شخصا غريبا بهذه السرعة، لكني قررت
أن أخرج عن القاعدة وأعبث قليلا كما يفعل معظم الناس. لم تعد علي حساباتي بشيء سوى
الرتابة والإقصاء، فل أجرب بعضا من العشوائية لعلها تُسليني.
كنت متوترا بعض الشيء، فقررت أن أشرب بعض الكؤوس
كي أسترخي. لا يصدق المرء ما يمكنه التحمل بالشرب. إنه ترياق سماوي، حلّال العقد،
باعث السعادة وملطف الأجواء. شاء القدر أن أكون من النوع الكتوم، لذا من الضروري
أن لا يبدو علي ذلك عند اللقاء الأول. يجب أن أباشر بالحديث وأستفيض فيه كي لا
يكون الموعد مُملا، فالنساء تحب الرجل الثرثار الذي يبوح بكل شيء. لا أعلم لماذا،
لكنهن لا يشعرن بالأمان إلا بكثرة المعلومات حتى لو كانت تافهة، ويقلقهن الصمت لحد
الريبة، فيتجنبن الرجل الصامت الهائم في نفسه وفي سرائره. ربما لهذا يسميهم البعض
"شريكات حياة"، فكل النساء اللائي عرفت تحب أن تشارك معهن كل شيء، حتى
أدق تفاصيل يومك.
دخلت أقرب الحانات لبيتنا. حانة "الرياضيين"
أو كما يسميها شريبة المدينة "بار ليهودي" نسبة لمالكها القديم رجل
الأعمال المغربي من أصل يهودي "موسيو جوزيف". كان جوزيف من أطيب الناس
وأكرمهم، وكانت حانته معروفة بأكلات السمك الطازج وبزبنائها المحترمين من الطبقة
المتوسطة. غيّر المُلاك الجُدد هذا العُرف، وأصبحت ملاذا لأي مُتردّ أراد أن يُذهب
عقله ويتقيئ همومه. كانت تعجّ بعدائي الخمر الذين يرمون حياتهم عند الباب ويقتحمون
أولمبياد البار الصاخب. من عادتي أن ألجها لأكل طاجين الأخطبوط الشهي
"زيز" الغارق في الصلصة الحارة واحتساء النبيذ، لكني هذه المرة اكتفيت بالشرب
فقط. طلبت بيرة "ستورك" باردة،
فلا شيء غيرها يكْسر قلق الانتظار. لم أكثرت لمباراة المنتخب الوطني الودّية التي أذيعت
في التلفاز ولا لموسيقى الشعبي التي تحرك رؤوس بعض السكارى. كنت مُنغمسا في موسيقى
" جورج تورغود" على هاتفي النقال منتشيا بوخز البيرة على طرف لساني ومُحدقا
في وجوه الشخوص التي تملأ المكان. غريب أمر السكارى في بلدنا، ما ان يثملو حتى يُخرجوا
ما فيهم من اختلال وعنف ومواهب.
انهيت الشقراء النديّة، ثم هفا قلبي لبعض الدفئ.
أين تراني أجد الدفئ في غير المصل البني؟ طلبت من النادل احضار كأس من
"الجوني ووكر" دون ثلج ومزجه بالماء بدل الكولا. الثلج والكولا يفسدان
مذاقه القوي فيصير ككوكتيلات الفودكا عديمة الطعم والرائحة. ظللت منتبها لهاتفي في
انتظار إشارة لقدوم ليلي، لكن لم تبعث أي شيء. سألتها في رسالة نصية عن اقتراب وصولها، فاعتذرت وطلبت
مني أن أنتظرأكثر. نهلت كأس ويسكي أخرى وطلبت من النادل إحضار البيرة من جديد.
أمضيت الوقت بمشاهدة الكهول الراقصين، الذين يفرحون لحظة ثم يسبّون العالم في
اللحظة الأخرى. كانوا كالحياة، سلسلة من الأفراح واللعنات، تختلف حدّتها حسب
حظك.
رن هاتفي بعد
حوالي نصف ساعة منذ الرسالة الأخيرة، كلمتني ليلي مُعلنة قدومها. دفعت للنادل
وهرولت اتجاه مدينة الفنون، أحد أهم المؤسسات الثقافية التي تُنظم فيها التظاهرات
في المناسبات الرسمية لتمجيد سيل الثقافة الذي يفيض في هذا البلد. كانت ليلي
تنتظرني عند الرصيف في الشارع الرئيسي المحادي للحانة داخل سيارة رمادية، رمقتها
من بعيد ثم اتجهت صوبها. فتحت الباب وألقيت التحية. كانت تُكلم أحدهم في مكالمة
فيديو على تطبيق الواتساب. انتظرت نهاية المكالمة، ثم استبقتها قائلا:
-
أخشى أن أكون عطلتك عن مكالمة عمل.
-
لا تقلق، كنت أكلم جاري وأوصيه
بالاعتناء بمنزلي.
-
حسنا، أنشرب فنجان قهوة أم نتناول العشاء
؟
-
لا، أريد أن أتجول قليلا في آسفي وحسب.
-
حسنا، لننطلق فالوقوف على هذا الرصيف ممنوع.
-
قهقهت ليلي بصوت عال وأجابت : ممنوع، أنا لا
أكترث !
-
أجبتها وفكرة دورية الشرطة الليلية تجول في
رأسي : لكن البوليس يكثرت.
انطلقنا نجول شوارع المدينة الخالية متجاذبين أطراف الحديث.
لم يكن اسمها ليلي، لكنها بدت كذلك. سميتها ليلي لأنه ناسب ملابسها المزركشة
وشعرها المنفوش الذي اختلطت فيه الصفرة بالسواد. كانت نشيطة ومرحة، تعرف الكثيرين
وتتكلم الانجليزية بطلاقة. وامضة كشعلة من الطاقة وهي تسُوق وتتكلم عن حياتها
وأصدقائها في الولايات المتحدة الأمريكية وعن عملها الجمعوي. تكلمت عن كل شيء
وانتقلت بين مواضيع مختلفة بسرعة لم أستطع مواكبتها، لكن الابتسامة لم تفارق محيّاي
لحظة واحدة كي أخفي عدم استماعي لجل ما قالت.
استمرت الرحلة إلى حين توقفنا عند هضبة برج الناظور، بسيدي
بوزيد المطلة على المدينة والمحيط. فتحنا النوافذ لنستنشق بعض الهواء الطري، لكن
الريح العاتية حملت معها بعض الشوائب التي استقرت إحداها على جفن ليلي. شرعت ليلي
في النظر لمرآة السيارة الصغيرة مُحاولة سحب ما علق بعينها، اسغللت الفرصة وجذبتها
نحوي كي أطلع على مُقلتيها، ثم قلت بصوت خافت:
- عيناك جميلتان، تخفيهما النظارة.
- ضحِكت بخجل: أنا لا أرى جيدا بدونها.
مررت أصابعي على
شعرها القصير المجعد وأنا أخترق مقلتيها بنظرات شهوانية، اقتربت أكثر وحاولت سرقة
قبلة من شفتيها الطريتين لكنها استوقفتني :
-
أنت سكران.
-
كلا، لست كذلك، أريد تقبيلك.
-
لا أحب رائحة الكحول، كما أعتقد أن الوقت ليس
مناسبا.
تناسيت فكرة الوقت المناسب وغيرت المحادثة نحو الكحول:
-
لا عليك، أنا أحترم رأيك في الكحول مع أنني
لا أشاطرك إياه.
-
ردّت : عرفت أصدقاء كثيرين، وكان أغلبهم يدخن
ويسكر ويتخدر لكنني لم أجرب شيئا قط.
-
نعم، ليس شرطا أن تكونِ نسخة لمحيطك.
أجبتها جوابا ديبلوماسيا مع أني لم أصدقها. لا يمكن لشخص
عاش فترة في الخارج ألا يجرب شيئا إطلاقا، كما أن شخصيتها الإندفاعية وطاقتها
الهوجاء تقول عكس ذلك. لكن ماذا عساي أفعل؟ فكل النساء يرددن كذبتهن الأزلية
" لم يسبق لي أن فعلت" ثم يُتبعنها بأي شيء أردنك أن تصدقه. تعاشرها
فتردد: لم يسبق أن لمسني أحد، تسافر معها لمكان ما فتسارع بالقول: لم يسبق لي أن
سافرت مع أحد، وهكذا دواليك. الممتع في الأمر أنهن لا يكثرتن إن صدقت أم لا، المهم
أنك ستسمع تلك العبارة حين تكون رفقة الجنس الناعم، الذي يكذب ويخدع ويخون ولكنه
لا يُسدد اللكمات.
طلبتْ أن نغير المكان، فوافقت دون تردد. أكملنا الجولة
عائدين صوب وسط المدينة، مرورا بسيدي بو الذهب و بساحة مولاي يوسف المطلة على قصر
البحرالمهترئ الذي يتهاوى عاما بعد عام. وصلنا لحديقة على مقربة من منزلي، وتوقفنا
للحديث مرة أخرى. عرضت عليها تناول العشاء من جديد، لكنها استمرت في التهرب.
حدثتني عن عملها
بمراكش في مجال السياحة وعن الزيارة التي تخطط لها صباح الغد لشاطئ الواليدية
لتفقد الفيلا التي تخصصها للعطَل الصيفية. كنت شارد الذهن، أستمع ملتقطا بعض
الكلمات ومومئا برأسي، منشغلا بفكرة أن هذه الليلة لن تنتهي بشيء. لاحظت ليلي أني
غير مهتم بتفاصيل عملها، فعرضت علي مشاهدة بعض الصور لكلبها "جوي".
استلطفت جوي وعبرت لها عن حبي للكلاب وحكيت لها تجاربي معهم في الطفولة. كان حب هذه
الكائنات الوفية هو ما اتفقنا حوله. أشارت الساعة لمنتصف الليل، ودعتها واعتذرت لها
عن الإزعاج الذي سببته رائحة الكحول ثم انصرفت مهزوما غير ظافر بشيء، لكن لي شرف
المحاولة. تمنيت أن نتناول العشاء ونشرب النبيذ معا، وأن أمضي ليلتي في فراش هذه
الغريبة، ألاعب جسدها المتعب وأتيه في تفاصيله وترهّلاته، لكن رائحة الكحول حالت
دون ذلك. لا أدري إن كان الكحول هو السبب، لكني فضلت تعليق فشلي على شماعته. من
يدري؟ قد يكون هنالك سبب آخر.
كانت ليلي حلما، ومضة خاطفة عابرة، لم أرها منذ تلك
الليلة. لم أحاول الاتصال بها لأنها لم تطلب ذلك، مع أنني لم أكف عن التفكير فيها
لأيام. أقنعت نفسي أن ما يحدث دون حسبان، يزول دون حسبان. لم يكن لقاؤنا مقررا،
لذا تعاملت مع الوضع كأنه لم يحدث قط وكبحت كل سؤال يدور في رأسي عنها. أكملت
المضي نحو المجهول، دون علم ما الذي قد تخفيه الأيام، قد أصادف ليلي وقد لا أقابلها
مرة أخرى في حياتي. هكذا هي اللقاءات والعلاقات، عابرة ومتلاشية في الزمن. لا مفر
من الوحدة، فهي على ما يبدو، الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق