الأربعاء، 29 أبريل 2020

عودة جالوت (الجزء 2)



مهدي حبشي


-          لن تجده بهذا السعر في أي مكان آخر، أبيعه فقط لأني في حاجة ماسة للمال...
قال البائع في محاولة لإقناع ذلك اللاجئ، الذي لا يبدو أنه تجاوز سن التاسعة عشرة، باقتناء الهاتف. ولم يبدُ أنه في حاجة للإقناع، اعتبرَ اللاجئ هاتفاً من ذلك الطراز غنيمة مقارنة بثمنه البخس. فأمده بالمبلغ المطلوب وعلى وجهه ابتسامة ساذجة، ثم استلم غنيمته كما يستلم رضيع ثدي والدته. أما أنا فكـأني كنتُ أشاهد تسجيلاً لما جرى لعمَّار، ولكل اللاجئين الذين ألقي عليهم القبض في الآونة الأخيرة رغم حسنِ سيرتهم.
كدتُ من فرط الغضب أنقض على ذلك البائع المشبوه وأوقف العملية، لكني تعقَّلتُ في آخر لحظة، حينَ أدركتُ أنَّه تصرفٌ لن يؤدي إلى نتيجة تذكر. فليسَ عندي دليل على أنَّها بالفعل عملية نصب واحتيال وتوريط للاجئ في أداة مسروقة. وقد أتسرَّعُ وينقلب الأمرُ عليّ. لذا قررتُ أن أثبت في مكاني منتظراً انفصالهما لأتعقَّبَ البائع، لعلي أصل لشيء يضيء لي القضية أكثر.
وكذلك كان، نهضتُ من مكاني ولاحقته خلسة بعدما ابتعد بعض الشيء، وتحقق مرتين من أنَّ أحداً ليس في أعقابه. الأمور تزداد غموضاً وإثارة بوتيرة سريعة، يكفي أنه لم يغادر المخيم عبر بوابته التي تحرسها (المفوضية السامية لشؤون اللاجئين) التابعة للأمم المتحدة، بل خرج عبر فجوة غربي المخيم لا يبدو أنَّ أحداً انتبه لها في السابق، بما في ذلك أنا الذي اكتشفتها أول مرة... خارج المخيم رأيته يتقدم نحو الحي المجاور ويتوغل ضمن أزقته. وظفتُ كل ما في ذهني من تقنيات التعقب، من ترك مسافة أمان إلى التخفي وسط التجمعات البشرية، مروراً بتصنع ملامح البراءة على وجهي. بينما لم يستدِر هو سوى مرتين فقط، اطمأن بعدهما لكونه في أمان.
التحق بمقهىً شعبي وألقى التحية على رجل أصلع مريب، فدخلتُ المقهى بدوري واتخذتُ مجلساً خلف طاولتهما كي يتسنى لي استراق السمع لما سيدور بينهما من حديث. استخرجتُ هاتفي وتظاهرت بأني مشغول به كي لا أحرك حولي الشكوك...
-         تمت العملية بنجاح سي عباس (قال البائع)
-         هل كان عربياً أم أفريقياً؟
-         أفريقي، لا يبدو أنَّ سنه تجاوز الثامنة عشرة كحد أقصى...
-         جيد، القاصرون صيد سهل، البالغون قد يشكون في شيء لذا ابتعد عنهم قدر الإمكان... صفه لي؟
-         الأفارقة يتشابهون سي عباس (قهقه بسخرية)، ولكن كان وجهه طويلاً وأنفه أفطس وله شعر قصير أشعث...
-         ماذا عن الجرذان؟
-         "كون هاني سي عباس"، أدخلنا عبرَ الفجوة سرباً آخر من 20 جرذاً قبل ليلتين، بينها إناث وذكور، سيتكاثرون بسرعة، إن هي إلا أيام حتى تصبح بالمئات... يقال إنَّ الجرذان وحدها خلصتنا من 7 لاجئين.
ابتلعتُ ريقي بعسر، بالكادِ صدقتُ أن تلك الجرذان التي صارت جيراننا في المخيم لم تنبت على الأرض، بل أقحمت علينا إقحاماً...
-         ممتاز..حسنٌ يمكنك الاحتفاظ بمبلغ المعاملة، وهاك هذا أيضاً... (زاده الرجل الأصلع مبلغاً آخر)
-         الله يخلف سي عباس، أنا في الخدمة في أي وقتٍ أردتني... (رسمت على محيا البائع ابتسامة خبيثة).
-         لا عليك... ولكن كن على أتم الاستعداد فمساء غدٍ ساعة الصفر و...
لم أكد أسمع المزيد حتى وقف النادل عندي يسألني عمَّا أرغبُ في شربه؟ فاجأني وبقيت مشدوهاً فيه لوهلة وفاتني بسببه سماعُ تفاصيل أكثر عن "ساعة الصفر". بعد برهة من الدهشة قلت للنادل "قهوة"، فانصرف من أمامي، وهناك وجدتُ الرجلين يسلمان على بعضها البعض بينما يستعد البائع للانصراف.
تباً، فاتني الشطر الأهم من الحديث.. كنتُ لا أزال مصدوماً وعاجزاً عن تحديد ما عليَّ فعله الآن... أمنحُ خِصيتي مقابل معرفة من يكون هؤلاء وماذا بينهم وبين اللاجئين، حتى يتآمروا عليهم بهذا الوجه الشنيع؟ عبرتني رعشة باردة وأنا أستحضر عبارة "ساعة الصفر"، التي تفوه بها الرجل، والتي حددها في الغدِ بينما أنا عاجز عن إدراك قصده بها. إذا كانَ توريط اللاجئين في جرائم هم براء منها، وقتلهم بالجرذان مجرد أحداث عادية، فكيف تكون "ساعة الصفر"؟ أخرجني من تفكيري قيام الرجل الأصلع من مكانه، ودفعه ثمن قهوته ليهم بالانصراف بدوره، فانتظرت ثواني عدة ثم تبعته غير آبه بالنادل، الذي ناداني وقد جاء بقهوتي.
لاحقتُ الأصلع إلى الشارع المجاور، وشاهدته يركبُ سيارة فارهة. وبينما يدفع ثمن الحراسة للـ"غارديان"، استلمتُ أول سيارة أجرة لاحت لي وأمرتها بملاحقته... وأثناء الملاحقة نظرتُ مراراً وتكراراً للعدَّاد وأنا أتوسل إلى الله ألا يتجاوز ثمن الرحلة 10 دراهم، التي منحني إياها صاحب مقهى الأندلس، فهي كل ما يتوفر في جيبي. أثناء المطاردة أخرجتُ هاتفي المهترئ وصورتُ الرقم التسلسلي للسيارة، صورة رديئة لكنها تفي بالغرض... ولحسن حظي كانت المسافة التي قطعها الرجل قصيرة لم يتجاوز سعرها 8 دراهم. أديتُ الثمن للسائق، واستغليت اختبائي داخل السيارة لأصور الرجل الأصلع صورتين. ثم غادرتُها وكلي أملٌ في أن يلتقي شخصاً آخر تمكنني محادثتهما من فهم تفاصيل إضافية عمَّا يُدبِّر...
لم يعد بوسعي مطاردته مسافة أخرى للأسف، حينَ رأيتهُ يدخُل مبنى محروساً من عدة طوابق. مبنىً مهيب، وينتصبُ في قمته شعارٌ برتقالي اللون كُتِب عليه بحروف عربية وأعجمية "الفجر El Fajr". قمتُ بتصويره..
عُدتُ أدراجي خائباً، كل ما أعرفه أنَّ أحدهم يكرهنا ويكيد لنا، وأنه يُجهز لنا في الغد جحيماً أجهلُ طبيعته. واقتنعتُ بأنَّ عمار والآخرين هم ضحايا شخصٍ وضيع يكره اللاجئين لسبب مجهول. لم يعد في جيبي سوى درهمان، فلم أتمكن من أخذ سيارة أجرة، عدتُ للمخيم حافيَ القدمين، فانتابني إرهاق شديد لدى وصولي. كانت أمي وأخي يغطان في نومٍ عميق، استلقيتُ على لحافي، فانتابتني مرة أخرى الرغبة في قراءة ذلك المقال الذي يشيطن اللاجئين. رغبتُ في الضحك غباء ذلك الصحفي الذي كتبه، وهو لا يعرفُ شيئاً عن غورِ ما يجري... تصفحتُ الجريدة بحثاً عن الصفحة التي تحتوي المقال، إلى أن صُعِقتُ بمشهدٍ هزَّ كياني.
على بُعدِ صفحتين من المقال، كانَت صفحة تحتوي بالكامل على صورةٍ طبقَ الأصل عن ذلك الشعار الذي شاهدته يعتلي المبنى الذي دخلَ إليه الرجل الأصلع. كان عبارة عن إعلانٍ لفائدة شركة "الفجر". وهي شركة عقارية. أخرجتُ هاتفي كالمهووس وقارنت الصورتين. فعلا، نسخة طبقَ الأصل ! ولأني أفقه جيداً في شؤون الصحافة، فقد أدركتُ أنَّ إشهاراً بذلك الحجم يساوي ثروة حقيقية... وأنَّه في الغالب يكونُ بمثابة رشوة من الجهة المُعلِنة للصحيفة... مُقابل التأثير في خطها التحريري !
جحظت عيناي وأنا أربطُ الخيوط ببعضها البعض، لعل ذلك المقال غيرُ بريء.. لعله أكثر من مجرد سذاجة صحفية... لعله المقابل الذي تشترطه شركة "الفجر"، لمنح الصحيفة إتاوة الإشهار ! بل لا شك في أنَّ الركوب على الإعلام لتأليب الرأي العام ضد اللاجئين، جزءٌ من المؤامرة الأخطبوطية التي تقودها "الفجر" ضد اللاجئين !
"ولكن ماذا بين شركة عقارية واللاجئين، حتى تكرههم وتكيد لهم على هذا النحو الشيطاني؟" تساءلت في خلدي، وبعدَ تفكير لا يوصف حتى بالعميق، خطرت ببالي فكرة... لكني لم أرغب في إطلاق الاتهامات على عواهنها.  قمتُ من مرقدي وتوجهتُ بخطى حثيثة صوبَ كوخ رُبا، وجدتُ المسكينة غارقة في أحلامها، فعلت بها الحبة المخدرة فعلتها. قبلتُ جبينها وأخذتُ من جيب معطفها خمسة دراهم... وركضتُ صوبَ أقرب بقال، عبَّأتُ عنده هاتفي بالأنترنت، وعدتُ بسرعة للخيمة لأشرع في بحوثي...
كتبتُ على محرك البحث غوغل "شركة الفجر"، المقالات الأولى التي عثرت عليها كانت محايدة، تسرد معلوماتٍ عادية عن الشركة، رقم معاملاتها الفلكي الذي يجعلها أضخم شركة عقارية في هذه البلاد.  واهتمامها في الآونة الأخيرة بالعقار الفاخر... لكن ما إن تعمَّقتُ في البحث حتى عثرتُ على مقالاتٍ تنتقد الشركة، وكان أبرزها ذلك الذي توَّج شكوكي: "شركة (الفجر) تستفيد من الريع الاقتصادي. تستحوذ على أراضٍ عمومية بأثمنة رمزية، وتشيد عليها فيلات وعمارات تباع بملايير الدراهم".  كتبت بعدها على غوغل "أفريقيا"، وأخذتُ أقرأ المقالات التي كتبت عن هذه الأرض التي أقيمَ عليها المخيم، خصوصاً خلال السنوات القليلة التي سبقت إنشاءه... وكما توقعتُ، تتحدث مقالاتٌ عديدة عن رغبة شركة الفجر في الاستحواذ عليه وإنشاء مجمَّعٍ سكني ضخم فوق أرضه... شساعته وموقعه داخل المدينة، يجعلانه كنزاً حقيقياً لأي شركة تملكه.
اصطكت أنيابي ببعضها غيضاً، بينما تفقدُ الصورة ضبابيتها في ذهني، ويتضح لي بما لا يترك مجالاً للشك أنَّ كل المآسي التي يشهدها هذا المخيم من هندسة شركة الفجر. لا لشيء إلا لكونها ترغب في طرد اللاجئين منه والاستحواذ عليه. لم يغمض لي جفنٌ طوال الليل، بتُّ أقلب الأمر في ذهني مفكراً في ما سأفعله لأفضح هذه المؤامرة... قررتُ أن أذهبَ للشرطة في الغد وأحدثهم عن الأمر وأحرِّرَ عمَّار المظلوم من قبضتهم... لم أستسلم للنوم إلا ببزوغ الفجر، وبعدها بساعاتٍ استيقظتُ وقد طلع الصبَّاح. حتى دون إلقاء التحية على والدتي، تركت الخيمة وتوجهت لكوخ ربا كي أطمئن عليها، وأؤكد لها أني سأحرر عمَّار قريباً بفضل ما توصلت له من معلومات...
فتحتُ باب الكوخ لأفاجأ بها تبكي فرحة وهي تعانق أخاها، لقد أطلقوا سراحه ! ارتميتُ على عمار بدوري وعانقته، "إنها معجزة..." قلت، فسكت عمار قليلاً ثم قال بنبرة بائسة: "تبينت لهم براءتي".. شيء عصي على التصديق، هذه أول مرة يعود فيها أحدهم من مخفر الشرطة دون أن يقضي فترة سجنية، أو يتم ترحيله من البلاد حتى. "كيف حدث هذا؟" سألته.. فلم ينطق بكلمة، ثم نابت عنه رُبا: "يكفي يا عِز، دعه يرتح الآن، فلنحمد الله على سلامته فحسب".
عُدتُ لخيمتي ببعض التفاؤل الذي زرعته فيَّ عودة عمَّار، لكني ما زلتُ حائراً في كيفية إثبات إفاداتي للشرطة، فليس في حوزتي دليل ملموس على ما أعرفه... والأكثر من ذلك أني مرتبك لكون مساء اليوم هو "ساعة الصفر" التي حددها الأصلع، دون أن أعرفَ ما يضمره من شر...؟ قضيتُ اليوم على الأنترنت أبحث عن تفاصيل أخرى قد تساعدني في الإطاحة بالشركة، كنتُ أضحك من نفسي بين الفينة والأخرى، كيف للاجئ بائس مثلي أن يسقط شركة بذلك الحجم؟ ولكن الكتاب المقدس يحكي لنا عن قصة النبي داود، الذي كان صغيرَ الحجم ومع ذلك نجح في إسقاط الوحش جالوت، الذي يفوقه عتاداً وحجماً.
حلَّ المساء، هبَّ اللاجئون إلى ديارهم، وتفاقم قلقي، فكرت في أن أي شيء سيقترفه أولئك المجرمون سيمر عبر تلك الثغرة التي يتسربون منها إلينا، فقررت أن أحرسها متخفياً الليلة. وأنظر في أمر أي تحرك مشبوه لعلي أكتشف ما يخططون له. وكذلك كان، جلستُ نحو ساعة أمام الثغرة دون أن يحدث شيء، إلى أن لاح لي طيفُ رجل يقترب منها من الخارج، فصرتُ على أهبة الاستعداد... لكن الرجل لم يدخل، بل وقف عند الثغرة دقائق وهو ينظر لساعته اليدوية من حين لآخر، حتى أقبل عليه أحدهم من داخل المخيَّم. ركزتُ بصري عليهما، لم يتبادلا أي كلمة كأن بينهما اتفاقاً مسبقاً، سلمه رجل الخارج خابيتين بلاستيكيتين وشيئاً آخر أصغر حجماً عجزتُ عن تحديد طبيعته... ثم انسحبَ إلى حال سبيله بينما توغل المستلِم داخل المخيم. كان ملثماً ما أعجزني عن تحديد هويته، كما لم أستطع في البداية معرفة ما ينوي فعله. طاردته إلى أن توقف عندَ خيمة وأخذ يسكب سائلاً من تلك الخابية، سرعان ما تناهت رائحته لأنفي فعبرتني رعشة باردة وبلعت ريقي بعسر... بنزين ! أينوي هذا المجنون حرق المخيم؟
بالفعل، انتهى من سكب السائل ثم استخرج من جيبه ولاعة، وفي اللحظة التي كان سيلهب المخيم وثبتُ عليه كالسبع على الفريسة فطرحته أرضاً، ثم وجهتُ له لكمة فولاذية.
-         من أنت أيها السافل؟ لما تفعل هذا؟ أنتَ لاجئ بلا شك.. وإلا كيف جئتَ من الداخل؟
لم أمهله فرصة الرد، وأزحتُ لثامه... لأجد نفسي أمام صدمة العمر.
-         عمار؟؟؟؟؟ ك... كيف؟ ولماذا يا أخي؟
لم يستطع عمَّار النظر في عيني، وصمتَ خجلاً لمدة طويلة، قبل أن أصفعه مطالباً إياه بتفسير... "تكلم يا عمار، تكلم وإلا صحتُ حتى استيقظ الجميع ورأوا ما كنت ست عله... لماذا تفعل شيئاً كهذا؟ لماذا ترغبُ في حرق وطنك؟
-         أي وطنٍ هذا؟ هذه زريبة لا تليق حتى بالخنازير... (قال بنبرة وملامح حادة).
-         ولكنها زريبتك، مسكنك الوحيد، من دونها مصيرك هو التشرد.. لماذا تتواطأ مع أعدائها؟
جرى الدمعُ نهراً من عيون عمَّار وهو يحكي لي ما حدث مساء الأمسِ في مخفر الشرطة.. اختلى بهِ زائرٌ لم يحدد هويته في زنزانته وقال له:
"إسمع يا عمَّار ، أنا شخصٌ أساعد اللاجئين وأريد مساعدتك. ولكن كل الأدلة ضدك، أنت المتهم الوحيد في سرقة الهاتف. الأسوء أن السرقة تمت في جنح الظلام وتحت التهديد بالسلاح الأبيض، ما يعني أن تهمتك ثقيلة جداً. لا أحد سيهتم بادعاءاتك حول شرائك الهاتف من أحدهم ما دمتُ عاجزاً حتى عن وصفه للشرطة... أخطأتَ بشراء هاتف من جهة لا يمكنك إثبات وجودها، رغم أني أصدقك وأعلم أنك لم تسرقه، ولكن القانون في هذا البلد لا يحمي المغفلين... (سكت المفاوض برهة ثم زاد) لكن بإمكاني مساعدتك مقابل خدمة بسيطة جداً. أمامك حلان اثنان: إما أن تقبل عرضي، وسأتكلف بنفسي بجعل صاحبة الهاتف تنفي للشرطة أن مواصفات السارق تنطبق عليك، وستغدو حراً منذ الغد... وإما أن ترفض وسوف يرفعون محضرك للمحاكمة. وحينها لن يبقى بوسع أحدٍ مساعدتك، فما رأيك؟ ثم هنالك شيء آخر... إذا قبلت العرض، ونفذت ما سأطلبه منك، فسنضمن لك ولأختك مسكناً لدى إقامات (الفجر)... السكن الاقتصادي لديهم أفضل بكثير على كل حال من ذلك المخيم القذر وأكواخه المقززة. أما إذا رفضت... فأختك ستزور السجن أيضاً. نحن نعرف أنها تمارس البغاء، وهذه جنحة خطيرة قد تؤدي حتى إلى ترحيلكما من البلد... ولا أظن في مصلحتك العودة لسوريا لتلقى قنابل جبهة النصرة والأمريكان والروس".
بكيتُ وأنا أسمع قصته، ثمَّ زمجرتُ في وجهه: "أمثالك هم الذين ضيعوا سوريا، وضيعوا العراق قبلها وفلسطين... وسيضيعون المغرب والجزائر... ".
-         فليذهبوا جميعاً للجحيم، ماذا أعطاني المخيم البائس غير الشقاء كي أشفق عليه؟
-         جعلك بين أهلك أيها المغفل، حينَ ستذهبُ للعيش في إقامات الفجر، ستسكن في بيت جيد وسط جيرانٍ لن ينظروا إليك إلا كلاجئ حقير، غريب من أولئك اللصوص وقطاع الطرق... لن ينظروا إليك أبداً كواحدٍ منهم. أنا أعرف أن حياة المخيم أقبح من أن تُحتمل، ولكن علينا أن نتحد لنبنيه ونحسن ظروفه سوية، لا أن نبيعه للأعداء. ماذا لو قضت رُبا في الحريق قبل أن تتمكن من انتشالها من الكوخ للإقامة؟ ألم تفكر في ذلك؟ كيف ستعيش حياتك بعدها وصورة أختك تلتهب تسكنك إلى آخر رمق في حياتك؟
هوت الدموع شلالاً من مقلة عمَّار، ثم عانقني وقد زاد بكاؤه حرقة، كما لو أن ضمير صحا من سُكره...
في اليوم التالي أخذتُ عمَّار وتوجهنا للكوميسارية كما يسميها المغاربة، فعمَّار بنفسه صار دليلي الذي كنت أبحث عنه لإدانة الشركة اللعينة. اتفقنا على أن يفضح كل شيء... وحينَ وصلنا إليها، وجدناها تخضع للصيانة، وقد أحاط بها سياجٌ حديدي كتب عليه: "مشروع تهيئة وتوسيع الكوميسارية من إنجاز شركة (الفجر)".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق