كان عبد الله معروفا في المحطة. فقد عاش معظم حياته فيها، منذ أن جاء من القرية. عمل أيامه الأولى كحمال، يلتقط الزبائن الواصلين عند أبواب الحافلات ليحمل حقائبهم وأغراضهم مقابل بضع دراهم. عرض عليه الروبيو أن يعمل لديه كبائع تذاكر ومرافق في رحلاته على متن نجم الشمال ، لكنه رفض لأن ركوب الحافلة يصيبه بالغثيان. كان العاملون بالمحطة يسخرون منه ويقولون أن “عبيد ” لم يركب في حياته سوى حماره في الدوار والحافلة التي جاءت به إلى هنا.
كان يكسب بين عشرين وثلاثين درهما في اليوم ، وينام في قاعة المسافرين على المقاعد الإسمنتية المغطاة بطبقة من الخشب المهترئ . تمكن بعد توفيره لمبلغ من المال وطلبه لمسؤول في المحطة ، أن يبني براكة صغيرة تأويه في ركن معزول قرب مرحاض المحطة . كان سعيدا بغرفته الآجورية وسقفها القصديري الذي يحميه من برد الشتاء القاسي ، بعد أن قضى سنوات في العراء .
مازحه الروبيو ذات مرة وقال له أنه أصبح رجلا يمتلك سكنا ومدخولا ، لا ينقصه سوى “عمارة الدار”. لم يغب عن عبد الله موضوع الزوجة، لقد بلغ الثلاثين ولم يلمس امرأة قط في حياته. عندما يختلي بنفسه ، يتخيل مليكة منظفة المرحاض متجردة من وزرتها البيضاء الطويلة و من ملابسها الخانقة . كان دائم التحديق في تفاصيل جسدها المكتنز من فجوة صغيرة في باب غرفته. أراد دائما الانقضاض عليها و مضاجعتها في براكته ، لكنه خاف الفضيحة.
قرر عبد الله أن يفاتح مليكة في موضوع الزواج ، فذهب للروبيو ليسأله عنها و يستشيره . وجده في مقهى المحطة يحتسي شايه المعتاد . جلس عبد الله بعد أن ألقى التحية، وقال:
– أريد أن أكلمك في شيء ، فأنت تعلم أنك الوحيد الذي ألجأ إليه .
– تكلم يا عبيد، أنا أخوك الأكبر. لكن بل ريقك أولا بكأس شاي.
نادى الروبيو با عروب وطلب أن يحضر كأس شاي بالنعناع . أحضر النادل الكأس، ارتشف منها عبد الله القليل واسترسل:
– ماذا تعلم عن مليكة ؟
– وحدانية ومقطوعة من شجرة، تسكن غرفة في أحد السطوح بالمدينة القديمة.
– وماذا بعد ؟
-لا أحد يعرف أصلها وفصلها، لكنها مكافحة و مستقيمة، لا تمد يدها لأحد.
– هي مثلي، تصارع الحياة بين جدران المحطة، إنها تناسبني.
– نعم يا عبيد، إنها مناسبة لك. توكل على الله فالزواج نصف الدين.
أدخل الروبيو يده في جيبه وأخرج بعض الأوراق النقدية. أعطاها لعبد الله ليستحم ويشتري ملابس جديدة ليتقدم لعروسه في حلة مناسبة وأضاف: ما من سبب يمنعها من الزواج بك. فكل امرأة في حاجة لرجل يحميها وكل رجل في حاجة لامرأة ترعاه.اعتنى عبد الله بمظهره وقصد مليكة ليعرض عليها الزواج. قبلت مليكة وقالت أنها تعبت من الشقاء وحدها و أن الوقت قد حان لتستند على رجل ، تتعاون معه على الزمان…
مرت السنوات ، ورزق عبد الله و مليكة بابنة سمياها عتيقة . كان الاسم من اقتراح الروبيو ، لطالما تمنى بنتا ليسميها باسم أمه الحاجة عتيقة ، فاستجابا له . كانت عتيقة الشغل الشاغل لوالديها والفم الجديد المحتاج لمن يطعمه. لم تعد دراهم مستعملي المرحاض ولا دراهم حمل المتاع كافية لسد حاجيات الرضيعة. اضطرت مليكة للعمل في أحد البيوت بحي السلام ثلاثة أيام في الأسبوع مقابل أربعين درهما لليوم الواحد، وباقي الأيام تمضيها في كرسيها البلاستيكي قرب المرحاض مع عبد الله الذي لم يعد مطلوبا في المحطة بعد ظهور الحمالين الجدد. كان المدخول زهيدا ليكفيهم جميعا . لكن الروبيو كان يعطف بين الفينة والأخرى على الصغيرة ، فيحضر الملابس والحفاظات والحليب من عند أخته الممرضة . كما يدس مبلغا من المال في جيب عبد الله كل شهر، ويقول له هذا رزق البنت…
كبرت عتيقة وبلغت السادسة عشرة من عمرها. كانت ترتاد الإعدادية المجاورة للمحطة وانقطعت عن الدراسة بعد وفاة أمها التي عانت من سرطان الدم لمدة. أرادات أن تساعد عبد الله في توفير القوت. راحت تبيع المناديل والعلكة على رصيف المحطة، تجول المكان بسلتها الصغيرة وتصعد بها إلى كل حافلة. كان الكل يشتري منها لجمالها و دلالها، كانت حسناء في ثوب رث. وعدت والدها أنها ستجمع له مالا كافيا ليوفر طاولة يبيع عليها السجائر. عرض عليها الروبيو عملا كعاملة نظافة في المستشفى و أخبرها أن نجاة أخته ستعتني بها ، لكنها رفضت. يقول عنها عبد الله أنها تملك جمال أمها لكنها لا تملك صبرها وكفاحها، وأنها صغيرة طائشة.
استيقظ عبد الله ذات يوم فلم يجد عتيقة. خرج عند بائعة الخبز التي كانت تجالسها فأكدت له أنها لم ترها هذا الصباح. طاف أرجاء المحطة بحثا عنها دون جدوى. أصابه القلق الشديد، فليس من عادتها أن تغيب عن المكان. حل المساء، ووصلت حافلة نجم الشمال. خرج المسافرون و خرج الروبيو فور تشتتهم. طلب الشاي ونده عبد الله ليشاركه كأسا. أخبره عبد الله أن عتيقة اختفت صباحا ولم تظهر لحد الآن. حاول الروبيو طمأنته قائلا:
– لا عليك، ليس لها مكان تذهب إليه.
– ماذا إذا هربت ؟ أنت تعلم طيشها.
– حتى إن فعلت، لي أصدقاء من الشرطة سيخدمونني في العثور عليها ، وسأخبر نجاة أيضا لتتأكد إذا كانت في المشفى أم لا. هكذا نكون قد غطينا العرائش كلها.
– وماذا إذا هربت خارج المدينة. كانت دوما تقول أنها تركب جميع الحافلات المتوقفة لكنها لم تركب واحدة متحركة قط. لم تكن ترضى بي و بأصلها، أرادت دائما أن تغادر المحطة. لقد أخفقت في تربيتها وخذلت مليكة التي أوصتني بها قبل أن ترحل لدار الحق .
– لا تقل هذا. اذهب لترتاح، سأجري اتصالاتي و غدا أوافيك بما توصلت إليه.
– حسنا، يبدو أنني لا أستطيع القيام بشيء آخر. سأدعو الله أن تكون بخير.
– ستكون بخير، لا تقلق…
أشرقت شمس الصباح على عبد الله الذي لم ير النوم. أمضى الليلة يفكر في عتيقة و يدعو لها. خرج من براكته، دخل المرحاض وغسل وجهه ثم توجه نحو الرصيف وجلس منتظرا. كان ينظر إلى كل حافلة و يتمنى أن تخرج عتيقة من إحداها ليعانقها ويضمها بقوة. توالت الحافلات دون أن تظهر. تذكر أيامه الأولى، الحافلات والمحطة لم تتغير، تغيرت وجوه الناس فقط. غاص عبد الله في الذكريات وبقي شاردا حتى أثار انتباهه صوت الروبيو الذي ناداه . بدا الروبيو متحفظا و مترددا. قال له عبد الله بحدة:
– تكلم ، لا تخفي عني شيئا . هل علمت عنها شيئا ؟
أجاب الروبيو وخيبة الأمل واضحة في صوته:
– إنها بخير، ليست في المستشفى ولا في قسم الشرطة. لكنها ليست في المدينة.
– توقعت ذلك، إنها لم تقبل بالعيش هنا وأرادت أن تتحدى قدرها، أين ذهبت ؟
– أخبرني مجيد سائق التاكسي الكبير أنه رآها صباح البارحة تركب أحد التاكسيات المتوجهة لطنجة .
رد عبد الله بنبرة حزينة:
– لم ترضى بي وبأمها رغم ما فعلناه من أجلها، وها هي الآن تركتني وأنا في أمس الحاجة إليها و انساقت وراء الأوهام. تعتقد أن الحياة ستبتسم لها عندما تغادر. ستعصف بها الحياة، وهي لا تقوى على تحمل قسوة العيش ومرارته. عظمها طري ولا تعرف قدرها، أخشى أن يصيبها مكروه، عندها أنا الذي لن يقوى على العيش وتحمل فقدانها. عتيقة هي من كان ينسيني فراق مليكة ، لا أتصور فراقها هي الأخرى.
– لا عليك ، سأتوجه لطنجة بعد الظهر وسأعرف مكانها . لدي من يدلني هناك.
أجاب عبد الله ومقلتاه ممتلئتان بالدموع :
– سأرافقك، لن أظل هنا كالميت، سأستعيد ابنتي…
الساعة تشير إلى الثانية بعد الظهر . قصد الاثنان مجيد ليقلهم إلى طنجة. أخبرهم أن أصدقاءه في محطة سيارات الأجرة سيساعدونهم، ثم انطلقوا. وصلوا بعد ساعة من الصمت الرهيب طوال الرحلة. ترجل مجيد من السيارة وتوجه نحو أحد السائقين ومعه صورة لعتيقة ناولها له عبد الله. أراه إياها و ظلا يتحدثان بصوت خافت، ثم عاد مهرولا. بدت عليه الحسرة و قال لهم أن صديقه قد تعرف عليها. لقد أتت هنا برفقة الأعور ، إنه صاحب سوابق ومشهور بتسفير الناس إلى إسبانيا . تبدل لون بشرة عبد الله و اسودت، سكت لثوان ثم نطق بصعوبة:
– لقد تركتني وذهبت مع مجرم، كنت أعلم أنها ستفعلها يوما ما. وانهار راكعا في التراب وهو يبكي.
حمله الروبيو وقال : لماذا تجزم أنها تركتك ، لم تكن لوحدها ، لابد أن ذلك النصاب خدعها واستدرجها، أنسيت أنها قاصر؟ يجب علينا إبلاغ الشرطة، خذنا يا مجيد إلى أقرب قسم بوليس.
تدخل مجيد مقاطعا : هناك شيء آخر.
صرخ الروبيو بشدة : ليس لدينا وقت ، تكلم !
– لقد أخبرني صديقي أنه أقلها لوحدها من العرائش وركب الأعور من أصيلة، لقد تحدثا كأنهما يعرفان بعضهما سلفا، وقد سمعهما يتهامسان بخصوص الرحيل إلى “ألمرية” و العمل في فندق. كما علم أمس من البحارة في مقهى الميناء أن قارب الأعور قد أبحر وعلى متنه أربعون شخصا، ثلاثة منهم نساء.
أمسك الروبيو برأسه و انتفض: إنها مصيبة !
رد عبد الله بانكسار وببرودة دم غريبة: إن أرادت أن تتخلى عني فلتفعل، أنا أسامحها.
– كيف ذلك ؟ من أين حصلت على المال ؟ ألا يحيرك كل هذا ؟
– لم يعد يحيرني شيء ، ماتت مليكتي و أنكرتني عتيقتي ، فقدت كل شيء.
– ماذا تقول يا عبيد ؟ يئست بهذه السرعة ؟
– ليس لي القدرة على فعل شيء. هيا يا مجيد، أعدني إلى حيث أنتمي، إلى محطتي. إنها منزلي ومأواي الذي تنكرت له ابنة مليكة الحالمة . فلترحل، إنها مشيئة الله. سأدعو لها دائما…
سكت الروبيو وأشار لمجيد بالرحيل. شكر مجيد صديقه وأدار المحرك. صعد الاثنان إلى السيارة و سلكوا طريق العودة…
مرت أربع سنوات منذ رحيل عتيقة. لم يعد يقوى الروبيو على عناء السياقة والمسافات الطويلة ، فتوقف عن العمل ولازم البيت ليستريح و يعيش روتين المتقاعدين . كان يزور المحطة من وقت لآخر ليشرب الشاي ويتفقد أصدقاءه و عبد الله الذي تحطم وفقد الأمل في الحياة. صار عبد الله كالميت يطوف المحطة في جلبابه المتسخ الممزق وطاقيته الصوفية الزرقاء دون أن يكلم أحدا، ويصعد إلى الحافلات للتسول. يشفق عليه بعض تجار المواد الغذائية المهربة الذين يعرفونه ، ويعطفون عليه ببعض الدراهم أو بشيء من سلع الشمال التي بحوزتهم. كانوا في كل مرة يصادفونه يتذكرون أيام شبابه ويشيدون به، حين كان يحمل كيسين كبيرين على كتفيه دفعة واحدة. في بعض الأحيان كان يصرخ “عتيقة ” عندما يرى فتاتا تبيع الورق النشاف، ثم يصرف النظر حين تلتفت إحدى الفتيات. كن يعذرنه لأنهن علمن قصته. كان الكل في المحطة يقول أن ابنته العاقة هي السبب في ما هو عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق