بعد
أمسية مع الأصدقاء في حانة شعبية وسط المدينة، خرجت قرابة وقت الإقفال
بقليل. الحانات هنا تغلق أبوابها عند منتصف الليل لتطرد السكارى، فيعود
أغلبهم إلى بيوتهم و تعرج أقلية أخرى إلى الملاهي الليلية لإتمام السهرة
حتى يحل الصباح. إنتهت سهرتي ،ودعت أصدقائي و مشيت قليلا محاولا الوصول إلى
محطة سيارات الأجرة في الشارع الآخر ،لعلني أجد واحدة هناك تقلني للبيت.
مررت بزقاق ضيق يفصل بين الحانة و بين الشارع الرئيسي. لا أحبذه عادة لأنه مظلم و قذر. أكوام الزبالة مرمية على جنباته بانتظام شبه مقصود ، يذكرني بانتظام الغرس على جنبات الحدائق . كان هذا الزقاق حديقة إسمنتية وضيعة لا يصلها عمال النظافة. و أنا أمشي ببطء غير آبه بالروائح النتنة و الأرضية اللزجة التي يلتصق بها حذائي عند كل خطوة، سمعت أنينا خفيفا آت من زاوية. ظننت للوهلة الاولى أنه صوت قطين يختليان للجماع خلف صناديق القمامة الكبيرة ، لكنه لم يكن كذلك ، إنه صوت بشري.
اقتربت بحذر , فلمحت عجوزا مرميا على الأرض يتألم و كأنه يحتظر . ظننت أنه مشرد او متسول يختبأ في هذا الركن ليحتمي من البرد . لكنه يرتدي ثيابا نظيفة وهيئته لا توحي بالتشرد , ربما أنهكه التعب او أصابته وعكة صحية فسقط هنا . اقتربت منه أكثر و سألته: ما بك يا والدي ؟ أتحتاج الى مساعدة ؟
نظر إلي نظرة عجز و عيناه منقبضتان من شدة الألم و همهم بصوت خافت أن الأوان قد فات. رددت بنبرة شديدة: أي أوان هذا، سأساعدك على القيام، هيا أمسك يدي.
ما إن مسكت يده الباردة و المرتعشة محاولا سحبه، حتى رأيت جرحه العميق في عنقه. إنها فتحة عريضة دامية، لكن معطفه الصوفي امتص الدماء فلم أستطع رؤيتها عندما اقتربت منه. مشهد مخيف، رجل في مثل هذا السن و في هذه الساعة مرمي و ينزف. سألته و كلي دهشة و فزع: من الذي فعل به هذا ؟!
نطق بصعوبة بعد أن بلع ريقه: أولاد الحرام يا بني. ظللت واقفا في مكاني من الهلع . من هم أولاد الحرام ومن يجرأ على فعل هذا في مسن لا حول له ولا قوة . يبدو من جرحه أنه جرح سكين، ربما تعرض للسرقة. عجوز مثله يمشي في ساعة متأخرة كهذه هدف سهل للصوص الليل و حثالة المدينة، التي تخرج من جحورها في هذا الوقت كالضباع المسعورة لتقتات بالهجوم على المارة العزل. لا سيما أن الشرطة تقوم بدوريتها في بداية المساء ، مرورا بالشوارع الرئيسية في جولة تفقدية روتينية ،كأنها جولة استجمام لا عمل.
حاولت أن أضبط نفسي ثم نظرت إليه مجددا، قائلا: أنت لا تستطيع القيام يا والدي في حالتك هذه، جرحك عميق و سنك لا تحتمل كل هذا النزيف. سأتصل بسيارة إسعاف لتأخذك للمشفى حيث سيضمدون جرحك و تصبح بخير . لم يجبني رغم أن ناظريه كانا صوبي، ندهته بصوت عال: يا والدي ؟ أتسمعني ؟ ستكون بخير ، اصمد لبضع دقائق فقط .
لم يرد مرة أخرى . تفقدته، فوجدته جامدا لا يتحرك. جسست نبضه فصدمت . ليس هناك نبض، إنه جثة هامدة، لقد مات العجوز. لفظ أنفاسه الأخيرة دون أن أعلم منه شيئا، مات و أنا على وشك مساعدته، مات مرميا رمية الكلاب في هذا الزقاق الحقير. لا أحد يستحق نهاية كهذه .
تصلبت في مكاني كالمشلول لرهبة الموقف. ارتبكت، لا أعلم كيف سأتصرف. مرت كل سيناريوهات الدنيا في ذهني لبضع ثوان . تمالكت أعصابي و أخذت هاتفي النقال ثم اتصلت بالإسعاف و بلغتهم بحالة الرجل و مكانه. أجريت المكالمة مخفيا رقمي لخوفي من السين و الجيم.
أكملت المسير و صورة العجوز مازالت تراودني. شعرت بالعار لأنني تركته هناك قبل أن أتأكد أن الإسعاف حملته. أحسست بالجبن ،هربت كالفأر الخائف . تمنيت لو أنني أستطيع إعادته للحياة، تمنيت أن أملك قوة الآلهة لأرد إليه روحه. ذهب بي عذاب الضمير إلى الرغبة في الموت بدله. ربما له عائلة تنتظره، أبناء و أحفاد، أكيد أن رجلا في سنه له أفراد يعتمدون عليه و الآن رحل عنهم. طلبت الموت لأول مرة في حياتي. اختلطت علي المشاعر، لم أكن كالمعتاد. غيرني هذا العجوز، جعلني أحس و أطلب أشياء لم تخطر على بالي قبل اليوم. غيرني دون أن أعرف عنه شيئا، لم أعد كما كنت.
وصلت إلى محطة سيارات الأجرة دون انتباه للطريق ، فقد كنت شاردا و منهمكا في التفكير في مصير العجوز . ارتميت في أول تاكسي لمحته عيناي . لم يكن مستعدا للانطلاق، لكني دفعت له ثمن النقلة كاملا لأختفي عن هذا المكان. أردت أن أصل للبيت بأقصى سرعة، أردت أن أنام كي أنسى.
مرت دقائق الرحلة بسرعة، بقيت طيلتها صامتا أستمع إلى ثرثرة السائق عن غلاء البنزين و قطع الغيار. خرجت من السيارة مهرولا نحو البيت، أتنفس بصعوبة، أتعرق، قلبي يكاد ينفجر من شدة الخفق. وجدت نفسي أخيرا أمام الباب ، فتحته و يداي ترتعشان ثم دخلت . قصدت غرفة نومي و هويت فوق السرير كالبناء المنهار. لم أغير ملابسي ، تمددت مخور القوى أنظر إلى الأعلى في العتمة . لا اريد النور ، لا أريد رؤية نفسي في المرآة الحائطية ، أريد فقط أن أغفو .
مازال العجوز عالقا في ذهني، لم أستطع النوم رغم التعب و الشرب. أخذت حبوب المنوم من الدرج بجانب السرير ، ابتلعت أربع حبات دون ماء . أحسست لبرهة بالاختناق و بجفاف حلقي كالأرض البور. مكثت دقائق معدودة بعد هذه الجرعة ثم نمت…
أيقظني رنين الهاتف المزعج بعد ليلة من الرعب و الكوابيس. قمت و رأسي يكاد ينفجر من شدة الألم، هذا ما يحصل عندما تجتمع أثار الشرب و جرعة المنوم الزائدة. عيناي نصف مفتوحتان نظرا لأشعة الشمس الحارقة المنعكسة على زجاج الغرفة . عضلاتي متشنجة، لا أكاد أشعر بقدمي الباقيتان في الحذاء. نهضت و حملت السماعة لأرى رقم المتصل قبل أن أرد. إنها أمي، ماذا تريد في هذا الصباح !
أجبتها محاولا الا يظهر العياء في نبرة صوتي : ألو أمي كيف حالك ؟ كان يبدو عليها الحزن و أخبرتني أنها ليست على ما يرام، لقد تلقت خبر وفاة شقيقها . ألحت أن أرافقها للعزاء. قبلت رغم كرهي للتجمعات العائلية كي لا تطول المكالمة، لم أكن في حالة مناسبة للحديث. أمضيت ليلة مشؤومة و بدأت اليوم بتلقي خبر وفاة ، ما هذا البؤس الذي حل فجأة .
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة ، أخذت حماما سريعا و ارتديت ملابسا نظيفة ثم خرجت . مررت بأمي للذهاب إلى بيت جدي حيث ستقام مراسم العزاء. وصلنا إلى الفيلا في ضواحي المدينة . السيارات مرصوصة على الرصيف كالحزام المعدني و حفنة من الناس متجمعة حول المدخل. ألقينا التحية و عبارات التعازي، ووقفت منصتا. علمت من حديث أحدهم مع أمي أنهم ينتظرون قدوم الجثمان من المشرحة. استغربت ، ما السبب الذي جعلهم يحضرونه منها .لابد أنها طبيعة الإجراءات بالمشفى إذا لم يتوفى الشخص في البيت .
أقبلت سيارات الموتى البيضاء من ناصية الشارع . تعالت أصوات التكبير و النواح، بعد توقفها. قام رجلان من المجمع رفقة السائق و مساعده بحمل الجثمان وسط الصراخ، سيدخلونه كي تودعه العائلة قبل الدفن.
دخل الجميع، و وضع التابوت الخشبي الملفوف بثوب أخضر في غرفة نوم جدي. شرع أقارب و أصدقاء المرحوم في الدخول لإلقاء النظرة الأخيرة عليه، بينما ظل باقي الحاضرين يدردشون في الصالون الفسيح . كان كل من يدخل يخرج باكيا أو عابسا. اكتفيت بالوقوف في ركن أشاهد ما يجري. جاءت أمي و الدموع المتهاطلة تغمر وجهها ، تطلب مني الدخول معها لتوديع شقيقها. لم أشأ أن أرفض طلبها و هي حزينة و منكسرة .
دخلنا إلى الغرفة التي لم أدخلها منذ وفاة جدي. لم يتغير فيها شيء ، الأثاث و الأفرشة نفسها ، حتى الكتب و الملابس مازالت في مكانها. انحنت أمي لتكشف وجه المرحوم. عانقته بشدة متحسرة على فراقه، ثم رفعت ذراعيها عنه. رأيت وجهه، مستحيل، إنه العجوز الذي صادفته أمس. العجوز المغدور خالي ، قريبي الذي شهدت موته ، شقيق أمي الذي لم أره في حياتي قابلته عند زهوق روحه . فقدت النطق و الحركة، رأيت ضبابا يتشكل أمامي، سمعت صدى أمي كأنه آت من بعيد. لم اعد اشعر بشيء، سقطت أرضا…
مررت بزقاق ضيق يفصل بين الحانة و بين الشارع الرئيسي. لا أحبذه عادة لأنه مظلم و قذر. أكوام الزبالة مرمية على جنباته بانتظام شبه مقصود ، يذكرني بانتظام الغرس على جنبات الحدائق . كان هذا الزقاق حديقة إسمنتية وضيعة لا يصلها عمال النظافة. و أنا أمشي ببطء غير آبه بالروائح النتنة و الأرضية اللزجة التي يلتصق بها حذائي عند كل خطوة، سمعت أنينا خفيفا آت من زاوية. ظننت للوهلة الاولى أنه صوت قطين يختليان للجماع خلف صناديق القمامة الكبيرة ، لكنه لم يكن كذلك ، إنه صوت بشري.
اقتربت بحذر , فلمحت عجوزا مرميا على الأرض يتألم و كأنه يحتظر . ظننت أنه مشرد او متسول يختبأ في هذا الركن ليحتمي من البرد . لكنه يرتدي ثيابا نظيفة وهيئته لا توحي بالتشرد , ربما أنهكه التعب او أصابته وعكة صحية فسقط هنا . اقتربت منه أكثر و سألته: ما بك يا والدي ؟ أتحتاج الى مساعدة ؟
نظر إلي نظرة عجز و عيناه منقبضتان من شدة الألم و همهم بصوت خافت أن الأوان قد فات. رددت بنبرة شديدة: أي أوان هذا، سأساعدك على القيام، هيا أمسك يدي.
ما إن مسكت يده الباردة و المرتعشة محاولا سحبه، حتى رأيت جرحه العميق في عنقه. إنها فتحة عريضة دامية، لكن معطفه الصوفي امتص الدماء فلم أستطع رؤيتها عندما اقتربت منه. مشهد مخيف، رجل في مثل هذا السن و في هذه الساعة مرمي و ينزف. سألته و كلي دهشة و فزع: من الذي فعل به هذا ؟!
نطق بصعوبة بعد أن بلع ريقه: أولاد الحرام يا بني. ظللت واقفا في مكاني من الهلع . من هم أولاد الحرام ومن يجرأ على فعل هذا في مسن لا حول له ولا قوة . يبدو من جرحه أنه جرح سكين، ربما تعرض للسرقة. عجوز مثله يمشي في ساعة متأخرة كهذه هدف سهل للصوص الليل و حثالة المدينة، التي تخرج من جحورها في هذا الوقت كالضباع المسعورة لتقتات بالهجوم على المارة العزل. لا سيما أن الشرطة تقوم بدوريتها في بداية المساء ، مرورا بالشوارع الرئيسية في جولة تفقدية روتينية ،كأنها جولة استجمام لا عمل.
حاولت أن أضبط نفسي ثم نظرت إليه مجددا، قائلا: أنت لا تستطيع القيام يا والدي في حالتك هذه، جرحك عميق و سنك لا تحتمل كل هذا النزيف. سأتصل بسيارة إسعاف لتأخذك للمشفى حيث سيضمدون جرحك و تصبح بخير . لم يجبني رغم أن ناظريه كانا صوبي، ندهته بصوت عال: يا والدي ؟ أتسمعني ؟ ستكون بخير ، اصمد لبضع دقائق فقط .
لم يرد مرة أخرى . تفقدته، فوجدته جامدا لا يتحرك. جسست نبضه فصدمت . ليس هناك نبض، إنه جثة هامدة، لقد مات العجوز. لفظ أنفاسه الأخيرة دون أن أعلم منه شيئا، مات و أنا على وشك مساعدته، مات مرميا رمية الكلاب في هذا الزقاق الحقير. لا أحد يستحق نهاية كهذه .
تصلبت في مكاني كالمشلول لرهبة الموقف. ارتبكت، لا أعلم كيف سأتصرف. مرت كل سيناريوهات الدنيا في ذهني لبضع ثوان . تمالكت أعصابي و أخذت هاتفي النقال ثم اتصلت بالإسعاف و بلغتهم بحالة الرجل و مكانه. أجريت المكالمة مخفيا رقمي لخوفي من السين و الجيم.
أكملت المسير و صورة العجوز مازالت تراودني. شعرت بالعار لأنني تركته هناك قبل أن أتأكد أن الإسعاف حملته. أحسست بالجبن ،هربت كالفأر الخائف . تمنيت لو أنني أستطيع إعادته للحياة، تمنيت أن أملك قوة الآلهة لأرد إليه روحه. ذهب بي عذاب الضمير إلى الرغبة في الموت بدله. ربما له عائلة تنتظره، أبناء و أحفاد، أكيد أن رجلا في سنه له أفراد يعتمدون عليه و الآن رحل عنهم. طلبت الموت لأول مرة في حياتي. اختلطت علي المشاعر، لم أكن كالمعتاد. غيرني هذا العجوز، جعلني أحس و أطلب أشياء لم تخطر على بالي قبل اليوم. غيرني دون أن أعرف عنه شيئا، لم أعد كما كنت.
وصلت إلى محطة سيارات الأجرة دون انتباه للطريق ، فقد كنت شاردا و منهمكا في التفكير في مصير العجوز . ارتميت في أول تاكسي لمحته عيناي . لم يكن مستعدا للانطلاق، لكني دفعت له ثمن النقلة كاملا لأختفي عن هذا المكان. أردت أن أصل للبيت بأقصى سرعة، أردت أن أنام كي أنسى.
مرت دقائق الرحلة بسرعة، بقيت طيلتها صامتا أستمع إلى ثرثرة السائق عن غلاء البنزين و قطع الغيار. خرجت من السيارة مهرولا نحو البيت، أتنفس بصعوبة، أتعرق، قلبي يكاد ينفجر من شدة الخفق. وجدت نفسي أخيرا أمام الباب ، فتحته و يداي ترتعشان ثم دخلت . قصدت غرفة نومي و هويت فوق السرير كالبناء المنهار. لم أغير ملابسي ، تمددت مخور القوى أنظر إلى الأعلى في العتمة . لا اريد النور ، لا أريد رؤية نفسي في المرآة الحائطية ، أريد فقط أن أغفو .
مازال العجوز عالقا في ذهني، لم أستطع النوم رغم التعب و الشرب. أخذت حبوب المنوم من الدرج بجانب السرير ، ابتلعت أربع حبات دون ماء . أحسست لبرهة بالاختناق و بجفاف حلقي كالأرض البور. مكثت دقائق معدودة بعد هذه الجرعة ثم نمت…
أيقظني رنين الهاتف المزعج بعد ليلة من الرعب و الكوابيس. قمت و رأسي يكاد ينفجر من شدة الألم، هذا ما يحصل عندما تجتمع أثار الشرب و جرعة المنوم الزائدة. عيناي نصف مفتوحتان نظرا لأشعة الشمس الحارقة المنعكسة على زجاج الغرفة . عضلاتي متشنجة، لا أكاد أشعر بقدمي الباقيتان في الحذاء. نهضت و حملت السماعة لأرى رقم المتصل قبل أن أرد. إنها أمي، ماذا تريد في هذا الصباح !
أجبتها محاولا الا يظهر العياء في نبرة صوتي : ألو أمي كيف حالك ؟ كان يبدو عليها الحزن و أخبرتني أنها ليست على ما يرام، لقد تلقت خبر وفاة شقيقها . ألحت أن أرافقها للعزاء. قبلت رغم كرهي للتجمعات العائلية كي لا تطول المكالمة، لم أكن في حالة مناسبة للحديث. أمضيت ليلة مشؤومة و بدأت اليوم بتلقي خبر وفاة ، ما هذا البؤس الذي حل فجأة .
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة ، أخذت حماما سريعا و ارتديت ملابسا نظيفة ثم خرجت . مررت بأمي للذهاب إلى بيت جدي حيث ستقام مراسم العزاء. وصلنا إلى الفيلا في ضواحي المدينة . السيارات مرصوصة على الرصيف كالحزام المعدني و حفنة من الناس متجمعة حول المدخل. ألقينا التحية و عبارات التعازي، ووقفت منصتا. علمت من حديث أحدهم مع أمي أنهم ينتظرون قدوم الجثمان من المشرحة. استغربت ، ما السبب الذي جعلهم يحضرونه منها .لابد أنها طبيعة الإجراءات بالمشفى إذا لم يتوفى الشخص في البيت .
أقبلت سيارات الموتى البيضاء من ناصية الشارع . تعالت أصوات التكبير و النواح، بعد توقفها. قام رجلان من المجمع رفقة السائق و مساعده بحمل الجثمان وسط الصراخ، سيدخلونه كي تودعه العائلة قبل الدفن.
دخل الجميع، و وضع التابوت الخشبي الملفوف بثوب أخضر في غرفة نوم جدي. شرع أقارب و أصدقاء المرحوم في الدخول لإلقاء النظرة الأخيرة عليه، بينما ظل باقي الحاضرين يدردشون في الصالون الفسيح . كان كل من يدخل يخرج باكيا أو عابسا. اكتفيت بالوقوف في ركن أشاهد ما يجري. جاءت أمي و الدموع المتهاطلة تغمر وجهها ، تطلب مني الدخول معها لتوديع شقيقها. لم أشأ أن أرفض طلبها و هي حزينة و منكسرة .
دخلنا إلى الغرفة التي لم أدخلها منذ وفاة جدي. لم يتغير فيها شيء ، الأثاث و الأفرشة نفسها ، حتى الكتب و الملابس مازالت في مكانها. انحنت أمي لتكشف وجه المرحوم. عانقته بشدة متحسرة على فراقه، ثم رفعت ذراعيها عنه. رأيت وجهه، مستحيل، إنه العجوز الذي صادفته أمس. العجوز المغدور خالي ، قريبي الذي شهدت موته ، شقيق أمي الذي لم أره في حياتي قابلته عند زهوق روحه . فقدت النطق و الحركة، رأيت ضبابا يتشكل أمامي، سمعت صدى أمي كأنه آت من بعيد. لم اعد اشعر بشيء، سقطت أرضا…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق