Antonio Mancini - Portrait of the Artist’s Father |
كان يَقبع في
صندوق خشبي مُهترئ كل مساء، ويبدأ دوامَه المزعوم في تمام العاشرة. يجلس
وحيدا في الظلام. لا يظهر منه سوى مُحياه المُخيف وتقاسيمه القاسية حين يُطل من
فتحة جُحْرِه كالجرذ، ليتفقد موقف السيارات الذي يحرُسه. لا يُكلّم أحدا ولا يُؤنس
ليله سوى لفافة الحشيش ودردشات الراديو. لا يعلم أحد من أين أتى، ولا ماذا يُدعى.
كان الكُل يُناديه بالمْعلم، رغم أن وجهه القبيح وخُموله لا يُفشي أنه حِرَفي أو
حتى أنه عمِل مرّة في حياته. كان يوحي مَظهره البالي بأنّه من حقبة أخرى. يرتدي بِنْطال
جينز أزرقا داكنا ومِعطفا صوفيا خانِقا وقُبعة كقبعات العمال الانجليز في مطلع القرن العشرين. كان بين الفينة والأخرى، يَحِلّ باكرا قبل موعده بساعات ويُمضي
الوقت في تفكيك براغي دراجته النارية وتشحِيم قِطعها. ربما لهذا السبب ناداه
السُكان "المْعلم". كان معظم الوقت عابسا، راكِد الملامح، كأنه جسد دون
روح. عيناه القاتمتان تفيضان غدرا وآثار شقاوة الماضي تنخر جنبات خدوده وتخطّ رقبته.
كان يبدو كمحارب قديم. كلّمْتُه ذات مرّة بالصدفة، وكان فظّا في معاملته مُفتقرا
للّباقة.
سمِعت مرّة من
نادل مقهى في تقاطع الشارع الذي يحرسه المعلم، أن الحاج مصطفى -صاحب جُل البنايات
في المنطقة- قبل وفاته، عَطف عليه بهذا العمل وكلّفه بحراسة مواد البناء حين كان
الحي في طور الإنشاء. وعِند انتهاء الأشغال، ظلّ ماكثا دون أن يطرده أحد وتعوّدَ
الناس على وجوده. أصبح المْعلم كأشجار موقف السيارات، جزءا من حي "رحى
الريح". يقول عنه البعض الآخر من كِبار السّن الذين عاصروه، أنه سيء السُمعة
وأنه أمضى ريعان شبابه داخل السجون، وأن له سوابق عدلية جُلّها في السرقة بالإكراه
والاعتداءات. سمِعت نَفْس الكلام عن ماضيه من حارس سيارات في الشارع الموازي. قال عنه
أن السجن أثقل عظْمته وأنه خرج من آخر مُدة سجنية عجوزا حاقدا، لا يقوى على اقتراف
شيء. فقدْ أجبره ضعفه على البحث عن عمل مستور يوفر له كسرة خبز وقطعة حشيش. كانت
الحراسة الليلية عمَلا مناسبا له. فَهِي التي جَعَلتْه مُتواريا عن الأنظار وبعيدا
عن المشاكل وعن الرفقة القديمة التي لم يَطله منها سوى فقدان حريته. كان دائما
وحيدا في العتمة. يُراقب ويدخن في صمت. يستمع للراديو إلى حين انقضاء الليل، ثم
يختفي في ساعات الصباح الأولى.
في ليلة من ليالي
نونبر الباردة، كان المعلم يحتمي من زخات المطر الخفيفة التي تنقر خشب مأواه
بانتظام. يدخن سيجارة "ماركيز" الشاحبة ويُشعل بعض الفحم في المِجمر
ليشعر بالدّفء. لم يكن يُبالي بالسيارات المركونة. كل ما يُهمه هو أن ينهي دوامه
ليَفِر هذا الطقس. كان يرتدي جلبابا ثقيلا فوق ملابسه ويضع قُبعته العُمالية التي
لا تفارق رأسه. بينما كان يستمع لبرنامجه المُفضّل الذي يروي قِصص المتزوجين
ومآسيهم، سمع صراخ بعض السكارى في الأفق. كان ضجيج السّكارى والمشردين صوتا مألوفا
يَكسِر سُكون الليل المُريب. نظر المعلم من الفُتحة الصغيرة التي تتوسط الصندوق
الخشبي كي يتفقد الوضع. لم يرى شيئا، كان يسمعهم فقط. قرّر أن لا يخرج وأن لا
يكترث للأمر طالما لم يقربوا سيارات السّكان. رفع المعلم صوْتَ المِذياع وأشعل
سيجارة أخرى، ثم أهمل أصواتهم. هكذا هُم عرابِدة الليل، يَلعنون العالم بما فيه
حين ينفذ الشراب ويزعجون مدينة بأسرها احتجاجا على ذلك. كان المعلم يستمع دوما
لبرنامج "مشاكل أسرية" على راديو القناة الأولى في منتصف الليل. كانت
صراعات المتزوجين تُسليه وترسم ابتسامة شريرة على شفتيه من حين لآخر. ابتسامة نصْره
الوحيد في الحياة. ابتسامة بغيضة تُعلن راحة بالِه من قرف النساء ومتاعب الأبناء.
كان حُرا أو كما يُقال "لا تابع لا متبوع".
مرّت بضع دقائق حتى قاطع دوِيّ خُلوة المعلم،
وأوشك على كسر ملاذه المُتداعي. طااااخ، كانت ضربة شبيهة بالرعد، سببها حجرة رماها
أحدهم ليضرب صندوق الحراسة. طااااخ، انهالوا عليه بضربة ثانية أقوى من الأولى، ثم
نطق أحدهم:
- اخرج يا ابن القحبة...
أعلم أنك لست نائما.
جاء الثاني بعد أن انتهى من التبول على عجلة
إحدى السيارات وحاول جرّ صديقه: هيا، لنذهب. سنصفي حسابنا معه حين نكون في وعينا.
أجابه: لا، لقد
شربت لترا من الماحية من أجل هذه اللحظة، ولن أفوِّتها حتى يزحف ابن القحبة على
رجليه ويطلب الرحمة.
-
إنه
نائم، هيا بنا، لا تفسد مزاجي.
-
لن أرحمه... قُم يا ابن القحبة، اليوم آخر
يوم لك هنا.
كفّا عن الجدال ثم
شرَعا في قذف مكان الحراسة بالحجارة دون هوادة. كان المعلم جامدا، لم يبرح مكانه
ولم يجيب. كان واثقا من صلابة الصندوق الخشبي ومُراهنا على نفاذ جُهدهم، وعندها
سيرحلان. لابدّ أن يحيدا عن ما يفعلان بعد برهة، فالسّكر بدّال. لم تصدُق توقعات
المعلم وظلا يقذفان مكان المعلم حتى خرج عن صمته ونطق: ولد ربيعة، اذهب لحال
سبيلك، سأخرج لك وستندم.
-
أجاب أصغرهما سنا، بعد أن قذف بحجرة: يا ابن
القحبة، أنت من سيندم يا قواد. توصل أخباري للمخزن (الشرطة) ... يا ولد المارجة،
اخرج لتموت.
-
همس الآخر: اذا خرج ابن القحبة سنعاني معه،
نحن سكارى وهو في وعيه.
-
ردّ الشاب بعصبية: سأنكح أمه حتى لو بقي فيّ
نفسٌ واحِد.
-
لدي فكرة للخلاص منه دون مشاكل.
-
تريث الشاب وقال بهدوء مفاجئ: ما هي؟
هَمَس صديقه مرة
أخرى بخُبث في أذنه ولمعت عيناه، ثم كفّا عن قذف الحجارة. ساد هدوء غريب. تنفسّ
المعلم الصعداء حين كفّ الضرب وأشعل سيجارة ليسترخي بعد هذا الإزعاج. كان يفكر أنهما
غادرا. هكذا هم السُكارى، يغضبون في لحظة وينْسون سبب الغضب في اللحظة الأخرى.
مرّت عشر دقائق عن
آخر ضربة. ظل المعلم يدخن مُستمعا لأحد المشاكل الزوجية في الراديو. كانت قصة شابة
في العشرينات زوّجها والداها زواج صالونات حين كانت قاصرا. وفي الشهر الثاني من
عقد القِران، اكتشفت أن زوجها مضطرب نفسي. لا يمكنه أن يعيش دون أحد الأدوية
المضادة للقلق. أدركت ذلك في إحدى نوبات غضبه، حين كسر أواني المطبخ وسبّها
وأهانها دون سبب. كانت الشابة تحكي قصّتها وتبكي. بعد أن ظنت أنها ستعيش حياة
جديدة بعيدا عن فقر والديها، ابتلاها الله بمُختل جعل حياتها جحيما. كان والداها
يرفضان الطلاق ويهددانها إذا تجرأت وطلقت نفسها، فلن يكون لها مكان في بيت الأسرة وستُطرد
للشارع. كانت مضطرة للصبر على نوبات زوجها خوفا من الضياع.
مرّت الليلة في
سلام، وأشرقت شمس الصباح على المعلم الذي جمع كل أغراضه في كيس بلاستيكي استعدادا
للرحيل. أغلق باب الصندوق وتفقد أماكن الضرب. لم يتأثر الخشب كثيرا بالحجارة رغْم
قِدمه. حمل المعلم كيسه وامتطى دراجته النارية المتوارية في ركن العمارة المجاورة،
ثم انصرف.
عاد المعلم في
اليوم التالي كعادته قرابة العاشرة. ركَن دراجته في موضعها وفتح مقر العمل. لم يُحضر
طعامه هذه الليلة. كان تَخِما بِفِعل وجبة دسِمة تناولها قبل القدوم. لقد حضر عزاء
أحد الجيران الذي يقطن بجانبه بحي تراب الصيني. كان عشاء شهيا وامتلأت معدة المعلم
بالدجاج المحمر، كما اصفرت أصابع يداه من أثر مرَقِ الدغميرة. كان يُحس بكسل عارِم
وبرغبة في الاستلقاء. أخرج سيجارة من سترته ومعها قطعة ضئيلة من الحشيش وورقة لفّ
منكمشة، ثم شرع في لفّ سيجارته المحشوة التي ستهضم الوليمة. أشعل لفافته وانتشى
بأول نَفَس، ثم أشعل الراديو ليستمع لبعض الموسيقى. كانت أغنية محمد الحياني
"مع الأيام" مذاعة على موجات القناة الأولى. ظلّ المعلم مُستمتعا بعبق
الأغنية المغربية وبلفافته الفوّاحة. كان مزاجه صافيا. لا شيء يُسعد رجلا أكثر من
توفر عناصِر راحته. وجبة شهية وتبغ هنيّ مُنَسّم بالحشيش البلدي وموسيقى شجيّة. أوشك
منتصف الليل واقترب موعد برنامج "مشاكِل أسرية". كان المْعلم يشعر
بارتخاء شديد ويفكر في البرنامج الذي يؤنسه حتى يخطفه النعاس. كان يُحب النوم على
صوت الحكي. فجأة، سمع صوتا خفيفا شبيها بجرّ معدن ما، تبعه مواء القطط الليلية.
كانت القطط تعبث دائما بأغراضه في الخارج. لابد أن إحداها تنطّ وتلعب قرب المجمر.
هكذا فسّر المعلم الصوت المفاجئ، ثم عاد للاستماع لفاصل الإعلانات قبل موعد
البرنامج. سمع الصوت مرة أخرى، لكن هذه المرة كان قويا ومعه قرقعة شبيهة بصوت
إغلاق قِفل. حاول فتْحَ باب الصندوق الخشبي ليرى، لكن لم يستطع الخروج. شيء ما كان
يُعيقه. حاوَل عدّة مرات بقوة لكنه أدرك أنه عالق، وأن شيئا في الخارج يحْبِسه.
أراد فتح النافذة الصغيرة المُطِلة على موقف السيارات، لكن دون جدوى، كانت موصدة
أيضا. كان المعلم في حيرة مِن أمره، وتسلّل
الخوف إليه. سمع أخيرا صوت قهقهة صاخبة
هاهاه ... هاها .
-
أمسكت بك يا ابن القحبة كالفأر... هاهاها.
-
رد المعلم مُتوترا: ولد ربيعة، كفى من العبث
ودعني أخرج.
-
لن تخرج يا قواد، لقد أحكمت عليك بسلسلة
سميكة وقفل، سأفعل فيك ما أشاء.
-
أرجوك، لم أخبرهم بشيء.
-
أخبرتهم يا ابن القحبة أين أكون ومع مع أكون،
لا تنكِر... ظننتك ولد الوقت، لكنك مجرد قواد. أ لهذا أخرجوك؟ لابد أنك كنت قوادا
ممتازا داخل السجن.
-
لا تجعل الشرب يلعب بك، دعني أخرج، أتوسل
إليك.
-
اسكت يا ابن القحبة، لقد عشت كلبا وستموت
اليوم كلبا. لن يسأل فيك أحد يا قواد، وسيجلبون قوادا آخر مكانك، لا تقلق.
لم يكترث "ولد
ربيعة" للمعلم ولم تأخذ به رأفة. جرّ الصندوق الخشبي بكل قوّته محاولا إيقاعه
من حافة التل التي وُضع فيها. وبعد دقائق من الدفع المستمر، سقط الصندوق بما فيه
على كومة من الحجارة والتراب، على أرض لم تبنى بعد. فرّ ولد ربيعة بعد فِعلته وترك
المعلم عالِقا في الأسفل.
غاب المعلم عن
الوعي لمُدّة، ثم استفاق. كان جسده مُنهكا مُدشدشا، لا يقدر على تحريك اصبع. فَتح
عيناه في الضّيق والظلام وظلّ يُفكر مُناجِيا نفسه: أ هذا أنا؟ أنا الذي كان يُقام
لي ويُقعد، أصبح يُقذف بي كالدّمية. أنا الذي كُنت أحكُمُ حي تراب الصيني وأقذف
بالبشر إلى سكّة الحديد وقتما يحلو لي. أنا الذي كانت تهَابُه المدينة بأسرٍها من
محطة القطار إلى سيدي بوذهب. تَنهد المعلم بشدّة وأغمض عينيه، بعد أن لعن زمانه
الذي سقاه المرار طيلة حياته والهوان في آخر العمر.
حلّت ساعات الصباح
الأولى، وأشرقت شمْسُ الشتاء الباهِتة. كان عمّال مقهى الرّبيع أول الواصلين
لاستقبال زبائن البنوك الذين يُفطِرون باكرا. لمحَ صلاح نادِل المقهى وزميلته
نادية اختفاء الصندوق الخشبي من مكانه على شاشة كاميرا مراقبة المقهى الخارجية.
سارع صلاح ليرى أين اختفى صندوق الحراسة. بعدما وصل لمكانه، شاهده مرميا في الأسفل
وقد أحاطت به سلسلة حديدية. لم يتحطم الصندوق ولكن جُلّ هيكله تشقق بفعل الوقوع. هرْوَل
صلاح لأسفل التل. تفقد القفل المغلق، ثم سمع أنينا خافتا.
قال صلاح بِفضول:
المعلم؟ أ هذا أنت ؟ ما الذي حصل؟
لم يجب المعلم
بكلمة، لكن أنينه كان ردا كافيا. وثب صلاح في اتجاه المقهى. أخرج مفكا من دُرج
المطبخ و أوصى نادية بالاتصال بالإسعاف. عاد بسرعة لمكان المعلم وحاول فكّ القفل،
لكنه استعصى عليه. حاول طمأنة الملعم قائلا: لا تقلق، الإسعاف في طريقها.
مرّت أربعون دقيقة
على هذا الحال قبل أن تحضر الإسعاف. خرج منها اثنان من عناصر الوقاية المدنية في
بذلهم الزرقاء اللامعة، وقال أحدهم ببرود: ما الذي حصل؟
-
رد صلاح: هناك رجل عالِق داخل الصندوق.
لمح رجل الوقاية
المدنية الآخر الصندوق، ثم أخرج مفكا كبيرا لفتح القفل. فتح القفل بحركة خاطفة.
قال رجل الوقاية الأول:
سيدي؟ هل أنت بخير؟
وهرول الثاني للسيارة لجَلب النقّالة. لم ينطق
المعلم بكلمة. كانت تبدو عليه بعض الكدمات التي لم تغير شيئا في قُبحه. جاء
المُسعف بالنقّالة لحَمْلِه وكرّر سؤال زميله: هل أنت بخير؟ بماذا تُحس ؟ هل تقدر
على الوقوف؟
حدّق فيهم المْعلم
بازدراء وهو لا يقوى على الوقوف. أحسّ بالعجز ورفع رأسه صوب أعينهم الفضولية، بسَق
بقايا الدم الممزوجة باللعاب من فمه المُسْودّ، ثم نطق بصعوبة: هاد الزمااان.
أتبع جُملته الغريبة
بزفير طويل وسط استغراب الجميع. لم يفهم أحد ما الذي كان يقصده. حمَل ِرجال
الوقاية المدنية جَسدَه المُهشّم ووضعوه داخل الإسعاف، ثم رحلوا.