أطلّت شمس الشتاء
ذات مساء، بعد يوم غائم. كان الجو باردا رغم أشعتها الحارقة. كانت بدون جدوى،
كأنها شمس مزيفة. كيف تكون شمسا بلا دفئ ؟ بدت لي كقرص
متوهج يتوسط سماءً باهتة.
توجهت إلى مقهاي
المعتاد، "أم الخير". كنت وحيدا ومتخشبا من شدة الرطوبة، دون أمّ ولا
خير. أجلس دائما في ركن قرب بعض الغرس، تحت شمسية بالية تحجب عني أشعة الشمس
المزعجة. غيرت مكان الشمسية لتحميني من ثمار سوداء غريبة تسقط من أعلى. عيب هذه
الطاولة أنها تحت شجرة مشاكسة، ترمي الزبناء برصاص نباتي. كانت ثمارها لزجة ومليئة
بسائل أرجواني داكن يقارب السواد. ذات مرّة سقطت إحداها على قميصي. ارتطمت بكتفي
وتشتت السائل الشبيه بالمداد على الثوب الوردي. بدا القميص حينها كلوحة تجريدية.
جلست بعد طقسي في
إعادة ترتيب الطاولة. أحِب أن أحس ببعض الخصوصية حتى إذا كنت في مكان عام. جاء حسن
بابتسامته المشرقة وحيّاني. رددت التحية وسألته عن أحواله، ثم طلبت منه إحضار ما
يحضره كل مرة. كنت أفضله على النادل الآخر. كان خدوما وبشوشا ولذلك كنت أعطيه
البقشيش. أنا أحترم الذين يتقنون عملهم. تخيّلت لو كان كل موظف في إدارة أو مصلحة
يقابلك بلباقة حسن ويخدمك مثله، لارتاح المواطنون.
أحضر حسن قهوتي
الكثيفة كما أحبها، لا تتعدى نصف الفنجان وتعلوها رغوة بنية ناعمة. كانت تلك
الرغوة تداعب شفتي العليا كقبلة امرأة، وحين التلذذ بها تلذعني مرارتها. المرأة
مثل القهوة، إذا أحببتها ستُلذع حتما بمرارها. ارتشفت قليلا وأخرجت من حقيبتي
مذكرة وقلما لأكتب.
لم أكن في وضع يسمح
لي بالكتابة لانشغالاتي المؤرقة، لكني أردت فسحة لأهرب من إكراهات الدراسة ومن إلتزامات
البيت السيزيفية. رغِبت أن أصفي ذهني قبل أن أعود لأحشوه بعلم اجتماع من الدرجة
الثالثة. ينبغي أن أبتلعه ثم أبسقه على أوراق الإمتحانات التي سيقيّمها دكاترة لا
يُدَكْتِرون شيئا فيما يُحاضرون. كانت الدراسة دوامة من البلع والبسق، إلى حين
الإعتراف بموهبتك في الإجترار ومنحك شهادة بذلك. شهادة رسمية من وزارة التربية
الوطنية والتعليم، تأكد تخرّج بهيمة أخرى اجتازت كل المراحل لتنضم إلى دُفعتها في
رحلتهم نحو المجهول.
شهادة إجترار لا
يمكنها أن تنفعك في شيء. فهي أصلب من ورق الحمام ولا يمكنها تعويضه في حالة طوارئ.
الشهادة البهيمية مزيفة، وكل الشواهد ومانِحيها مُزيفون. إنهم كالأشعة المتسللة من
كنف الشمس، ينحدرون من نفس المصدر المزيّف. الجامعة صَرْح زيْف كبير، كشمس هذا
المساء.
وضعت القلم جانبا وارتشفت القهوة. لمحت نخلة
رشيقة تتمايل مع سعفها على إيقاع الرياح، كانت أشبه برقصة تانغو. ظللت محدّقا وأنا
أحاول تخيل مقطع موسيقي يليق بالمشهد.